أما طريقة القرآن الحكيم في الجدل فقد تضمنتها الآية الكريمة في قوله تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: ١٢٥] حيث أنها راعت حال المخاطبين حسب أحوالهم لأن الإنسان له ثلاثة أحوال:
إما أن يعرف الحق ويعمل به فيدعى بالحكمة، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، إذ تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة، فهذان هما الطريقان - الحكمة والموعظة. وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؟ فإن النفس لها هوى يدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة؟ فلا بد من الدعوة بهذا وهذا.
ولكن النوع الثالث من الناس لا يعرف الحق فحسب بل يعارضه.
ولهذا فلا يدعى بالجدل، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض، جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال:(جَادِلْهُمْ) ، فجعله فعلاً مأمورا به مع قوله:(ادعهم) فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة؛ فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن؛ حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة.
وهكذا فإن مقصود القرآن بيان الحق ودعوة العباد إليه لا الجدال بغير علم، فهذا مما ذمه الله تعالى بقوله:(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)[آل عمران: ٦٦] .
كذلك من سمات منهجه - الاكتفاء بالقرآن والسنة - ففيهما بيان كافة ما يحتاج إليه الإنسان في معرفة الدين وتنظيم المعاش في الدنيا، واستلزم منه هذا التصور أن يجمع في مؤلفاته بين المباحث التي شغلت المتكلمين والفلاسفة والصوفية، فأخذ يناقش كل طائفة مستدلاً على صحة أقواله بالآيات والأحاديث، مثبتًا أن في هذين المصدرين وحدهما كافة ما يحتاج إليه من معارف في أمور الدين، وأنهما يعبران عن ذاتية الإسلام في مواجهة كل الآراء والنظريات والفلسفات التي ابتدعها البشر، على اختلاف طرقهم في البحث والاستدلال.