فقال أبو بكر على رسلك وكان أبو بكر رجلاً وقوراً فيه حلم وتؤدة ثم تكلم فذكر تاريخ المهاجرين وما لهم من فضل السبق وتحمل الشدائد في سبيل دينهم ثم كر على ذكر الأنصار فأثنى عليهم وذكر مآثرهم وكان مما قاله بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً وأوسطهم داراً وأحسنهم وجوهاً وأمسهم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحماً وأنتم إخواننا في الإسلام وشركاؤنا في الدين نصرتم وواسيتم فجزاكم الله خيراً فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش فلا تنفسوا على أخوانكم المهاجرين ما فضلهم الله به فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأئمة من قريش" إلى آخره. قام بعد ذلك الخباب بن المنذر وهو من بني الخزرج وقال: "يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وظلكم ولن يجترئ على خلافكم ... إلى أن قال: ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم وينتقض عليكم أمركم أبي هؤلاء ألا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير". فقال عمر بن الخطاب: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن فقام الحباب ثانية وقال: "يا معشر الأنصار املكوا على أيدكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر"، فحدث إذ ذاك بينه وبين عمر جدال. ثم قام أبو عبيدة بن الجرح وقال: "يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزار فلا تكونوا أول من بدل وغير". فقام بشير بن سعيد وهو من بني زيد بن مالك من الخزرج وقال: "يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولى فضيلة وجهاد وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضاء ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا نتبغي به من الدنيا عرضاً فإن الله ولي النعمة علينا بذلك ألا إن محمداً من قريش وأهله أحق، وأولي وأيم الله لا يراني أنازعهم هذا الأمر أبداً فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم". قال عند ذلك أبو بكر: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار وخليفة الرسول على الصلاة والصلاة أفضل أركان دين المسلمين فماذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك ابسط يدك لنبايعك فمد عمر يده إليه فبايعه ثم أبو عبيدة ثم بشر بن سعد الأنصاري. فلما رأى ذلك الحباب قال لبشير: عققت، أنفست على ابن عمك الإمارة. قال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تدعوا إليه قريش وما تطلبه الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض: وفيهم أسيد بن الحضير وكان أحد النقباء. والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً قوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر حتى كادوا يطأون سعد بن عبادة. امتع سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر واستمر على ذلك مدة خلافته فلما تولى عمر الخلافة ذهب إلى الشام واستمر بها حتى مات ولم يبايع أحداً. =