للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحالة الثالثة ليست كفرًا، ولكن يمنع منها ما فيه من إيهام كما صرح بذلك الباجي في المنتقى (١).

ومَن وقف على مقاصد الكثير من عوامنا في نسبة الأفعال إلى الأولياء وتصرفهم في الكون، لم يشك في انطباق الحالة الثانية عليهم؛ إذ يعتقدون أنّ الأولياء أعزاء على الله، وقد فوّض إليهم التصرف، وأنابهم عنه فيه، فما قضوه للناس وافقهم الله عليه" (٢).

وقال أيضًا: "والدعاء بهذا المعنى يصدق بالاستعاذة والاستعانة والاستغاثة وغيرهن مما فيه معنى الطلب ... فإذا طلبت العوذ أو العون أو أمرًا آخر من المخلوق القادر عليه عادة لم يكن طلبك عبادة، فلم يختص بالله ولم تكن به مشركًا.

وكذلك إذا نسبت شيئا لغير الله لكونه سببًا عاديًا فتقول: استعذت بالحاكم من الظالم، واستغثت بالجيران على اللصوص، واستصرخت ذا الغيرة على المغير، ...

وإذا كان المطلوب لا يقدر عليه إلا من له قوة غيبية، وهو فوق الأسباب العادية، كان الطلب عبادة تختص بالله تعالى، ويكون طلب غيره حينئذ شركًا بالله" (٣).

وقال أيضًا: "توحيد الله متناول لتوحيد التوجّه إليه والاستعانة به فيما لم ينصب له سببًا عادياً، وابن

آدم - بلغ فضله ما بلغ- ليس له إلا التصرف المعتاد ما دامت روحه بجسده في عالم الشهادة، ولا تأثير للأرواح التي في عالم الملكوت في شيء من عالم الملك" (٤).

وقال أيضًا: "ومرّ نهيه صلى الله عليه وسلم عن جعل قبره وثنًا. واتخاذ القبر وثناً بأن يُطلب من صاحبه ما لا يُطلب إلا من الله" (٥).


(١) قال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ (١/ ٣٣٥) عند حديث «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر»: "ولو جرت العادة بنزول المطر عند نوء من الأنواء، فاستبشر أحدٌ لنزوله عند ذلك النوء على معنى أن العادة جارية به، وأن ذلك النوء لا تأثير له في نزول المطر ولا هو فاعل له ولا أثر له فيه، وأن المنفرد بإنزاله هو الله تعالى لما كفر بذلك، بل يعتقد الحق، وإنما كفر من قال: مطرنا بنوء كذا لإضافة المطر إلى النوء واعتقاده أن له فيه تأثيرا أو فعلا، مع أنّ هذا اللفظ لا يجوز إطلاقه بوجه وإن لم يعتقد قائله ما ذكرناه لورود الشرع بالمنع منه، ولما فيه من إيهام السامع ما تقدم ذكره".
ويقرب من قول الباجي هذا قول الحافظ ابن عبد البر حيث قال في التمهيد (١٦/ ٢٨٦): "والوجه الآخر أن يعتقد أن النوء يُنزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، فهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل، وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا ومرة دون النوء، وكثيرًا ما يخوى النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله لا من النوء".
(٢) رسالة الشرك ومظاهره (ص:١٩١ - ١٩٤).
(٣) المصدر السابق (ص: ٢٧٢).
(٤) المصدر السابق (ص: ٣٦٢).
(٥) المصدر السابق (ص: ٣٨٣).

<<  <   >  >>