للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال أيضًا: "مجرد دعاء غيره تعالى لا يوجب الكفر الجلي، وإنما فيه تفصيل يرجع إلى الداعي والمدعو إليه، فإن سلمت عقيدة الداعي كما ذكرنا نُظر إلى المدعو إليه، فإن كان مما جرت العادة فيه أنّ لغير الله فيه - بحسب الظاهر- دخلاً، كأن قال عطشان: يا فلان أسقني، أو عاجز عن الركوب يا فلان احملني على دابتي، ... جرت فيه الأحكام الخمسة لا الكفر الجلي.

وإن كان مما لا دخل فيه لغير الله كـ يا فلان وفقني، أو اغفر لي ذنوبي، ... فهذا كله ونحوه كأجرني من الله أو من عذاب الله، أو أسعدني مما يحرم التفوه به مطلقًا، وهو الشرك الخفي، ولا يخرج من الدين، ويزجر ويعزّر مرتكبه، هذا مع سلامة عقيدته الباطنة (١)، وإلا فهو كافر مطلقًا (٢) ".

• وقال الشيخ محمد عبده (المتوفى: ١٣٢٣): "فالإشراك اعْتِقَاد أَنّ لغير الله أثرا فَوق مَا وهبه الله من الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة، وَأَن لشيء من الْأَشْيَاء سُلْطَانا على مَا خرج عَن قدرَة المخلوقين، وَهُوَ اعْتِقَاد من يعظم سوى الله مستعينا بِهِ فِيمَا لَا يقدر العَبْد عَلَيْهِ كالاستنصار في الْحَرْب بِغَيْر قُوَّة الجيوش، والاستشفاء من الْأَمْرَاض بغير الأدوية الَّتِي هدَانَا الله إِلَيْهَا، والاستعانة على السَّعَادَة الأخروية أَو الدُّنْيَوِيَّة بِغَيْر الطّرق وَالسّنَن الَّتِي شرعها الله لنا، هَذَا هُوَ الشّرك الذى كَانَ عَلَيْهِ الوثنيون وَمن ماثلهم، فَجَاءَت الشَّرِيعَة الإسلامية بمحوه وردّ الْأَمر فِيمَا فَوق الْقُدْرَة البشرية والأسباب الكونية إِلَى الله وَحده" (٣).

وقال أيضًا: "إنّ من تتبع استعمال العرب في كلامهم يجد أنهم لا ينطقون لفظ العبادة على الخضوع والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما، ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو.

وإنما يخصون لفظ العبادة بالتعظيم الناشئ عن الشعور بأن للمعظَّم سلطة غيبية وأسرارًا معنوية وراء الأسباب الظاهرة، وخلاف ما يُعهَد من سائر الخلق.

وللعبادة صور كثيرة أشهرها وأعمها الدعاء وطلب قضاء الحوائج التي تتعاصى على الأسباب المكتسبة، فيتعذر أو يتعسر الوصول إليها، ولذلك اجتمع المفسرون على تفسير ألفاظ الدعاء بالعبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، وفي الحديث المشهور «الدعاء مخ العبادة».


(١) يقصد ما ذَكَره قبل ذلك من أنّ الداعي يعتقد أنّ المدعو ليس له شرك في الملك ولا التأثير ولا التدبير، ولا في إعانة على تحصيل شيء من المنافع، ولا دفع شيء من المضار، ولا تحصل شفاعة عند الله له من الغير ولا لغيره منه إلا بإذن الله، ... مع كونه جازمًا أنّ شفاعته وسؤال الشافع والسائل له عند الله لا يغير شيئا مما في علم الله ثبوتًا أو نفيًا ... إلخ.
وفي الحقيقة لا يُتصور وجود هذه الشروط فيمن يدعو غير الله، لأنه لو كان يعتقد ذلك لَمَا دعا ذلك الغير.
(٢) فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال لخوقير (ص: ١٤٢ - ١٤٣).
(٣) التوحيد لمحمد عبده (ص: ٣٣) دار الكتاب العربي.

<<  <   >  >>