للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أيضًا: "الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان:

أحدهما: ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور الكسبية: كاستغاثة مَن أَشْرَفَ على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً, وكاستعانة مَن وَقَعَ حِمْلُ دابته بمن يساعده على رفعه.

فهذا القسم مشروع في كل عمل مشروع من الواجبات والمستحبات والمباحات.

ثانيهما: ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف سنن الله تعالى في خلقه، كالاستغاثة بالموتى والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس من مقدورهم وكسبهم كإنزال المطر, وشفاء المرضى بغير تداوٍ.

فهذا القسم خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره، وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومعناه نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك, كما أن معنى قوله تعالى قبله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نعبدك ولا نعبد غيرك.

فاستعانة غير الله تعالى بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره, ومن أمر بذلك كان آمرًا بالكفر بالله ومخالفة ما كُلَّف جميع عباده أن يخاطبوه به في كل ركعة من صلواتهم, فهل صار المسلمون في درجة من الجهل بدينهم يؤمّهم بها في صلاتهم, ويتولى وعظهم في مساجدهم مَن يأمرهم بهذا؟!

وإذا لم تكن هذه الاستعانة هي الخاصة بالله تعالى بنص هذه الآية في أشهر سورة من كتاب ربهم, يحفظها كل مسلم ومسلمة فما هيه؟

على أن العباد يتحرون اجتناب الاستعانة بالمخلوقين وسؤالهم حتى في الأمور الكسبية التي أقام الله تعالى بها نظام هذا العالم, ... وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا منهم الصديق وأبو ذر وثوبان رضي الله عنهم، فكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته من يده وهو راكب, فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه.

أقول: وهذه درجة كمال لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال, وأما الأولى فيكلفها كل مؤمن؛ لأن تركها ينافي الإيمان, وفي المسألة أحاديث أخرى في الصحاح وآثار عن كبار الصحابة والتابعين ومَن دونهم من الصالحين.

والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة، بل أخص لأنها عبارة عن الضراعة في الدعاء عند شدة الضيق, التي وصف الله تعالى مشركي العرب بأنهم لا يدعون غيره عندها, وإنما يشركون به بعد أن ينجيهم منها والآيات في ذلك متعددة. وقد استغاث المسلمون اللهَ تعالى يوم بدر, ولم يستغيثوا النبي صلى الله عليه وسلم, بل كان - بأبي هو وأمي - إمامهم وقدوتهم في الاستغاثة, كما أنزل الله عليه {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} إلخ, وذلك أنهم كانوا قد قاموا بكل ما قدروا عليه, ولم يبق إلا ما لا يناله كسبهم من أسباب النصر, فسألوا الله تعالى مستغيثيه, فاستجاب لهم ونصرهم.

<<  <   >  >>