للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتّبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" (١).

وقال أيضا: "وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنًا له إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن مرض وإن استوحش، فذكْرُ إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، ووسيلته إليه. وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنه لا يهديهم فقال {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.

فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!

والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، ...

وترى المشرك يكذب حالُه وعملُه قولَه، فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم ولحرماتهم - إذا انتهكت - أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذُكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده، فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحنّ قلبه، وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذَكرت له الله وحده، وجردت توحيده لحقته وحشة، وضيق، وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك.

رأينا والله منهم هذا عيانا، ورمونا بعداوتهم، وبغوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا، فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا، وأبواب حوائجنا إلى الله، وهكذا قال النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، لما قال لهم: إن المسيح عبد الله، قالوا: تنقصت المسيح وعِبْتَه، وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد، ومساجد تقصد، وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها" (٢).


(١) زاد المعاد (٣/ ٤٤٣) مؤسسة الرسالة - بيروت.
(٢) مدارج السالكين (١/ ٣٤٨ - ٣٥٠).

<<  <   >  >>