للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أيضًا: "نعم استغاثةُ العِباد يوم القيامة وطَلبهم من الأنبياء إنَّما يدعون الله تعالى ليفصِلَ بين العباد بالحساب حتَّى يُريحَهم من هَوْل الموقف، وهذا لا شكَّ في جوازه، أعنِي طلبَ دعاء الله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لَمَّا خَرَج معتمراً: «لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك»، وأَمَرَنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين ونستغفر لهم في قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ}، وقد قالت أم سُليم رضي الله عنها: "يا رسولَ الله! خادمُك أنس، ادعُ الله له"، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاءَ منه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذا أمرٌ متفق على جوازه،

والكلام في طلب القبوريِّين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يَملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً أن يشفوا مرضاهم، ويردُّوا غائبَهم، وينفسوا عن حبلاهم، وأن يسقوا زرعَهم، ويُدِرُّوا ضروعَ مواشيهم، ويحفظوها من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها أحدٌ إلَاّ الله تعالى.

هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}، فكيف يطلب الإنسانُ من الجماد أو من حي - الجماد خير منه - لأنَّه لا تكليفَ عليه.

وهذا يبيِّن ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الآية، وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}.

فهؤلاء القبوريُّون والمعتقدون في جُهَّال الأحياء وضُلَاّلهم سَلَكوا مَسالكَ المشركين حَذو القُذَّة بالقُذَّة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يُعتقد إلَاّ في الله، وجعلوا لهم جُزءاً من المال، وقَصدوا قبورَهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقرباً إليهم. وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك" (١).

وقال أيضًا: "وكذلك أصحابه [أي: النبي صلى الله عليه وسلم] من بعده لا يُعلم عن أحدٍ منهم أنَّه استغاث به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، ولا يمكن أحدٌ يأتي بحرفٍ واحدٍ عن أصحابه أنَّه قال: يا رسول الله، ويا محمد مستغيثاً به عند شدة نزلت به.

بل كلٌّ يرجع عند الشدائد إلى الله تعالى، حتى عُبّاد الأصنام إذا مسهم الضر في البحر ضلّ من يدعون إلا إياه، وهذا خليل الله إبراهيم لما أُرمي به إلى النار لاقاه جبريل في الهواء فقال له: هل من حاجة؟ قال: أما إليك فلا.

وهذه الأدعية النبوية المأثورة قد ملأت كتب الحديث ليس منها حرفٌ واحدٌ فيه استغاثةٌ بمخلوق وسؤالٌ بحقه" (٢).


(١) المصدر السابق (ص: ٦٨).
(٢) الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف (ص: ٩١) ط/عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية.

<<  <   >  >>