للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك تبين أنّ الكفار الذين كانوا في عصر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، لم يكونوا يعدلون آلهتهم بالله، ويرونهم مع اللَّه بمنزلة سواء، بل كانوا يقرون بأنهم مخلوقون وعبيد، ولم يكونوا يعتقدون أبدًا أنّ آلهتهم لا يقلون عن اللَّه قدرة وقوة، وهم والله في كفة واحدة.

فما كان كفرهم وشركهم إلا نداءهم لألهتهم، والنذور التي كانوا ينذرون لها، والقرابين التي كانوا يقربونها بأسمائهم، واتخاذهم لهم شفعاء، ووكلاء، فمن عامل أحدًا بما عامل به الكفار آلهتهم، وإن كان يقر بأنه مخلوق وعبد، كان هو وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء ...

فاعلم أنّ الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله، ويساوي بينهما، فلا فرق، بل إنّ حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال - خصها اللَّه بذاته العلية، وجعلها شعارًا للعبودية- لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان، وإثبات قدرة التصرف له، وكل ذلك يثبت به الشرك، ويصبح الإنسان به مشركًا، وإن كان يعتقد أن هذا الإنسان، أو الملك أو الجنّي الذي يسجد له، أو يذبح، أو ينذر له، أو يستغيث به، أقل من اللَّه شأنا، وأصغر منه مكانا، وأن اللَّه هو الخالق، وهذا عبده وخلقه، لا فرق في ذلك بين الأولياء والأنبياء، والجن والشياطين، والعفاريت، والجنيات، فمن عاملها هذه المعاملة كان مشركًا، لذلك وصف اللَّه اليهود والنصارى الذين غلوا في أحبارهم ورهبانهم، مثل ما غلا المشركون في آلهتهم بما وصف به عباد الأوثان والمشركين، وغضب على هؤلاء الغلاة المنحرفين كما غضب على غلاة المشركين، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} " (١).

وقال أيضًا: "وقد حذر اللَّه في هذه الآية المسلمين من أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم من أن تغرهم نفوسهم فيقولوا: إن نبينا صلى اللَّه عليه وسلم له دالة عند اللَّه، يضر وينفع، ويدفع ويمنع، ويفعل ما يشاء، ونحن في أمته، فنحن نأوي إلى ركن شديد، وحرز حريز، فإن وكيلنا عند اللَّه، وشفيعنا إليه، من اللَّه بمكان ليس لأحد، فلا خوف علينا ولا خطر، وبذلك يسترسلون في الخيال، ويتوسعون في الأماني ويستخفون بالعمل، ولذلك أمر اللَّه نبيه بأن يخبر الناس أنه لا يملك لهم ضرا ولا رشدا، وأنه - وهو سيد الأنبياء - لن يجيره من اللَّه أحد، فكيف يستطيع أن يجيرهم من اللَّه، ويمنعهم من عذاب اللَّه وعقابه؟ " (٢).

وقال أيضًا: "اعلم أنّ الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر، وأصبح التوحيد غريبا ...

ومن المشاهد اليوم أن كثيرا من الناس يستعينون بالمشايخ، والأنبياء، والأئمة، والشهداء، والملائكة، والجنيات، عند الشدائد، فينادونها، ويصرخون بأسمائها، ويسألونها أو يطلبون منها قضاء الحاجات وتحقيق المطالب، وينذرون لها، ويقربون لها قرابين لتسعفهم بحاجاتهم، وتقضي مآربهم" (٣).


(١) المصدر السابق (ص: ٥١، ٥٦).
(٢) المصدر السابق (ص: ١١٤).
(٣) المصدر السابق (ص: ٤٩ - ٥٠).

<<  <   >  >>