للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أيضًا عند تفسير قوله تعالى: {دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: "فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأنّ الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى فيهم أحدًا يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال.

فبالله تعالى عليك قل لي: أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف" (١).

وقال أيضًا عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}:

"وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشّون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عزّ وجلّ، وسرْد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي: يا فلان أغثني، فقلت له: قل يا الله فقد قال سبحانه: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ} فغضب، وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء.

وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عزّ وجلّ وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان" (٢).

وقال أيضًا: "وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله تعالى حيا وميتا، ...

نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحُرْمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولعل ذلك كان تحاشيًا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس -إذ ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام- شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح.

وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم- كما يزعمه البعض- في التوسل بجاه عريض الجاه صلّى الله عليه وسلّم لا للميل إلى أنّ الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أنّ ما علّمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا.


(١) المصدر السابق (٦/ ٩٣).
(٢) المصدر السابق (١٢/ ٢٦٥ - ٢٦٦)

<<  <   >  >>