للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلا الله سبحانه، وأما فيما عدا ذلك مما يجرى فيه التعاون والتعاضد بين الناس، وإغاثة بعضهم ببعض فهذا شيء لا نقول به ولا ننكره كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، ونعدّ منعه جنوناً، كما نعد إباحة ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى شركاً وضلالاً.

وكون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به ولا يتوكل عليه، ويلتجأ في ذلك ...

فإذا علمت ذلك فلا يقال لحي أو ميت قريب أو بعيد: ارزقني، أو أمت فلاناً، أو اشف مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الفعال الخاصة به عز وجل. وبالجملة، فالاستغاثة والاستعانة والتوكل أغصان دوحة التوحيد المطلوب من العبيد" (١).

وقال أيضًا: "بقي ههنا شيء يورده المجيزون على هؤلاء المانعين، وهو أنه لا شك أن من عبد غير الله مشرك حلال الدم والمال، وأنّ الدعاء المختص بالله سبحانه عبادة، بل هو مخّ العبادة، ولكن لا نسلّم أن طلب الإغاثة ممن استُغيث بهم شرك مطلقاً، وإنما يكون شركاً لو كان المستغيث معتقداً أنهم هم الفاعلون لذلك خلقاً وإيجاداً، فحينئذ يكون من الشرك الاعتقادي قطعاً، أما من اعتقدهم الفاعلين كسباً وتسبباً فليس بمسلَّم، ولئن سلمنا فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلا التوسل بهم وبجاههم، وإن كان اللفظ ظاهراً يدل على الطلب منهم، وأنهم المطلوبون بهذا النداء، لكن مقصود المستغيث التشفع والتوسل بهم إلى ربهم، وهو صلى الله عليه وسلم من أشرف الوسائل إلى الله سبحانه، وقد أمرنا سبحانه بطلب ما يتوسل به، فقال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}. فكيف تحظرونها بل تجعلونها شركاً مخرجاً عن الملة وليس في قلوب المسلمين إلا هذا المعنى؟!، وإن في ذلك تكفير أكثر الناس، من غير ارتياب والتباس. وكيف تحكمون على أناس قد أظهروا شعائر الإسلام من أذان وصلاة، وصوم، وحج، وإيتاء زكاة، يأتون بكلمة التوحيد، ويحبون الله ويحبون سيد المرسلين، ويتبلغون بالقبول التام ما جاء عنهما من أمور الدين ...

فأجاب المانعون بقولهم: أما قولكم أن ليس مقصودهم إلا التوسل والتشفيع، وإن تكلموا بما يفيد غيره، فإنه يدل على أنّ الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأنّ اللفظ لا يكون كفراً إلا إذا طابق الاعتقاد. وهذا يقتضى سدّ أبواب الشرائع، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة. ولا سيما ما ذكرته الحنفية من التكفير بألفاظ يذكرها بعض الناس من غير اعتقاد، كيف وأن الله سبحانه يقول: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} والكلمة التي قالوها كانت على جهة المزح مع كونهم في زمن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يجاهدون ويصلون، ويفعلون جميع الأوامر، وقال تعالى: {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، وقد ذكر المفسرون: أنهم قالوها على جهة المزح. وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك، لا سيما الحنفية كما لا يخفى على من تتبع كتبهم.


(١) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص: ٥١٣) مطبعة المدني.

<<  <   >  >>