للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا هو دأب عبدة الصالحين، والقبور في هذا الزمان، يدعونهم ويستغيثون بهم، وينحرون لهم وينذرون لهم، والدعاء والاستغاثة والنحر والنذر كلها من أقسام العبادة على معناها المجازي، فكذلك فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين الأولين الذي حكاه الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فما وجه الفرق (١)؟

قوله: وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث باعتبار الكسب أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً، فإذا قلت: أغثني يا الله، تريد الإسناد الحقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإذا قلت: أغثني يا رسول الله، تريد الإسناد المجازي باعتبار التسبب والكسب والتوسط بالشفاعة.

أقول: هكذا كان مشركو الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. على أن القول بأن إسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي باعتبار التسبب والكسب، بديهي البطلان، بيانه من وجوه:

(الأول) أنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد كما توهم صاحب الرسالة لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العباد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى بالإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة من الكفر والشرك والفسق والفجور والزنا والكذب والسرقة والعقوق وقتل النفس وأكل الربا وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها، والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين له، فإنه يستلزم اتصاف الله تعالى بالنقائص وصفات الحدوث واجتماع الأوصاف المتضادة بل المتناقضة.


(١) قال الشيخ محمد رشيد رضا في تعليقه على كتاب صيانة الإنسان: "الفرق بين عبدة القبور المتأخرين وأولئك المشركين الأولين، أنّ الأولين هم أصحاب اللغة بالسليقة.
ومنها: أنّ كل ما يتوجه به إلى الخالق سبحانه ويطلب منه بالذات أو بالوساطة عنده فهو عبادة، وكل ما يتوجه به مخلوق بطلب ما ليس من الأسباب العادية المشتركة بين الناس، فهو يدخل في مسمى العبادة، وكذا كل خوف ورجاء في شيء من الأشياء لا يدخل في الأسباب المعروفة للناس، فالذين عبدوا الثعبان ما كانت عبادتهم له إلا اعتقادهم أنه يقدر على قتل الإنسان أو الجمل بدون سبب من أسباب القتل المعروفة لهم.
وجملة القول إنّ العبادة الفطرية عندهم وعند جميع الأمم تشمل كل اعتقاد وشعور وعمل ودعاء يتعلق بمن له سلطة غيبية غير عادية.
وقد يكون لعدة أشياء بعضها فوق بعض: منها ما له السلطة والتأثير بالذات، ومنها ما يكون بالوساطة.
وأما المتأخرون فلما لقنوا أنّ العبادة لا تكون إلا لله سمّوا عبادة التوسط عند الله توسلاً، وسمّوا من توجّه إليه وسيلة وشفيعاً وولياً كما كان يسميه المشركون الأولون، وإنما خالفوهم في تسميته إلهاً وتسمية وساطته عبادة، وهي تسمية لغوية صحيحة في اللغة، فالخلاف بينهما لغوي محض. وكتبه محمد رشيد رضا.

<<  <   >  >>