للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد زهد السيوطي في الحياة ورغب عن المناصب التي كان يشغلها من قبل أو التي حدثته نفسه بالطموح إليها في وقت من الأوقات، وصمم هذه المرة وقد بلغ السابعة والخمسين من عمره على أن يعتكف في بيته وأن يبتعد عن الحياة بما فيها من زينة بدت زائفة أمام عينيه، وما بها من مظاهر أصبحت نفسه لا تطيقها، لا سيما أنه رجل صوفي درس التصوف وانطبعت به نفسه فأحب أن يطبق الجانب العملي منه بعد أن أحاط بالجانب النظري، فالتصوف كما يعرفه أهله علم وعمل، ولا يجوز للمتصوف الحقيقي أن يسلك أحدهما دون الآخر وإلا كان عمله مبتورا.

ونحن نقرر هنا أن الرجل الذي دافع عن التصوف طيلة حياته، وألف فيه عديدا من الكتب والرسائل وولى مشيخته في بعض الخوانق قد أراد أن يسلك طريق الصوفية عملا بالتجرد والزهد والاعتكاف، والانقطاع إلى الله والعبادة.

ولم يكن هذا الاتجاه- في حقيقة الأمر- شاغلا للسيوطي عن العلم والمشاركة فيه بل إنه ألف في هذه الفترة من حياته كثيرا من المؤلفات، وقد أتاح له الاعتكاف والاعتزال والابتعاد عن الحياة بمشاغلها الفرصة للعلم والتأليف.

وكان السيوطي يقيم في منزل يطل على النيل بجزيرة الروضة بجنوب القاهرة، وكانت جزيرة الروضة من الأماكن المفضلة في السكنى آنذاك، وقد أشاد السيوطي بالروضة وجمالها وفضلها في السكنى على غيرها من الأحياء الأخرى «١»، بيد أنه بعد اعتكافه الأخير وانقطاعه كلية في منزله بها لم يكن يفتح طاقات بيته المطلة على النيل «٢».

وتجلت صور العزوف عن الدنيا وأهلها وزينتها وسلطانها في سلوك السيوطي في عزلته الأخيرة حين كان يأتي الأمراء والأغنياء ويعرضون عليه الأموال فيردها، وحين أرسل إليه الغوري خصيا وألف دينار فأخذ الخصي وأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية، وردّ الألف دينار وقال لقاصد السلطان: لا تعد تأتينا قط


(١) مقامة الروضة: روضة مصر، مقامات السيوطي ص ٦٣ - ٦٨.
(٢) الشعراني: ذيل الطبقات الكبرى ورقة ١٨ ص ٣٥.

<<  <   >  >>