للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مقامة أخرى نجد نفس الظاهرة التي تدل على ما نقول إذ يبدأ المقامة بقوله:

«حدثنا الريان عن أبي الريحان عن أبي الورد أبان عن بلبل الأغصان عن ناظر الانسان عن كوكب البستان عن وابل الهتان قال مررت يوما على حديقة ...

الخ» «١»، فليست هذه المقدمة للمقامة الوردية في الزهور إلا انعكاسا وتأثرا بما عاناه في دراساته الجادة لعلوم الحديث، فجاءت بما فيها من عنعنة معبرة عما بباطن عقله، كما أن المقامة لا تخلو من كثير من الأحاديث التي يحرص صاحبها على ذكر أسانيدها والكتب التي خرجتها برغم أن المقام ليس مقام استنباط شرعي أو استدلال علمي وإنما هو مقام نزوح أدبي، وسائر مقامات السيوطي تشهد لما قلناه، وتشيع فيها نفس الظاهرة وتؤكد نفس الفكرة، بل إن منظوماته الشعرية لم تخل- في بعض الأحيان- من هذه الروح كقوله:

لم لا نرجي العفو من ربنا ... وكيف لا نطمع في حلمه

وفي الصحيحين أتى أنه ... بعبده أرحم من أمه

وقوله:

حدثنا شيخنا الكناني ... عن أبه صاحب الخطابة

أسرع أخا العلم في ثلاث ... الأكل والمشي والكتابة «٢»

وفي غير ما ذكرنا من شعر له نجد في بعض الأحيان مصداق ما قلناه.

نستطيع أن نخلص مما تقدم إلى أن عقلية السيوطي عقلية الرجل المحدّث الذي يصب اهتمامه الأول على الأسانيد ويهتم بالرواة والنقلة، وأن نظرته إلى العلوم هي نظرة المحدّث وقد كان لذلك أثره في طريقة تأليفه وعنايته البالغة بالنقول وإيراد أسماء أصحابها وأسماء الكتب التي نقل عنها، وحرصه الشديد على عدم إغفال ذلك.

بيد أن ثمة أمرا لا ينبغي أن نغفله لصلته بالرواية ومدى التشدد والتسامح في قبولها، هذا الأمر هو أن السيوطي كان رجلا متصوفا انخرط في سلك


(١) المقامة الوردية (ضمن مقامات السيوطي ص ١١).
(٢) شذرات الذهب ج ٨ ص ٥٥.

<<  <   >  >>