وقد عرف الاجتهاد الفقهي منذ عصر الصحابة، ووجد كثير من الفقهاء الذين استنبطوا كثيرا من الأحكام، وعملوا بالقياس، وكانت لهم طرق متمايزة في الاستدلال والاستنباط، وكانت هذه الطرق والأصول بمثابة العرف الذي يحرص عليه الفقهاء ويشيرون إليه في عبارات مختصرة، ولم يتح لهذه الأصول أن تتخذ شكلها العلمي التنظيري الوافر إلا بعد أن أملى الشافعي (٢٠٤ هـ) رسالته التي أحاط فيها بجوانب هذا العلم، ولذلك فقد اشتهر الشافعي بأنه واضع علم الأصول، وليس يعني هذا أنه مخترع هذه الأدلة أو الموضوعات، ولكن يعني أنه أول من استطاع أن يتجرد لصياغة هذه الأفكار المتعارف عليها في إطار نظري محدود يكون بمثابة تخطيط يترسمه الفقيه في اجتهاده الفقهي.
إذا كان هذا ما حدث في علمي الحديث والفقه فهو نفس ما حدث في البيئة النحوية. لقد وجد النحاة منذ وقت مبكر، وتمت الملاحظات النحوية، واستطاع النحو أن يتخذ شكلا متكاملا في كتاب سيبويه، وقد تعارف النحاة في استقرائهم واستنباطهم ووضع مقاييسهم على عرف محدد التزموا به سواء فيما يتصل بمن يأخذون عنهم أم بالمادة اللغوية أم بطريقة استخراج القوانين، وبالرغم من وضع الضوابط النحوية منذ وقت مبكر فإن التجرد لبحث هذا المنهج النحوي لم يبدأ التفكير فيه إلا بعد وقت طويل. ذلك أن القدماء كانت عنايتهم بالتطبيق أغلب من عنايتهم بالتنظير، والعناية بالتطبيق أو الجوانب العملية من البحث هو ما تدعو إليه الحاجة في أول الأمر، ثم يأتي التنظير في المراحل التالية.
وقد قدر لأصول الفقه أن توضع منذ وقت مبكر كما رأينا، وقد أخذ علم الأصول طريقه في التدرج شيئا فشيئا، ووضعت فيه التقسيمات والتفريعات المختلفة، بيد أننا ننظر في البيئة اللغوية فلا نرى من حاول وضع أصول للنحو، حتى إذا ما قدر لهذه البيئة أن تتجه إلى هذه الوجهة فإنها تقوم بصنيعها مترسمة خطى البيئة الفقهية في أصولها، فيأتي ابن جني في القرن الرابع الهجري ويحاول أن يضع بعض الأصول النحوية في كتابه الذي ذكر أنه وضعه نتيجة لأنه لم ير «أحدا من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام