فيهم ولا ينظر إلا هم الخلق أغلب شيء عليه والخلق أقرب شيء إليه، فهذا من المبعدين بهم لأن البعد صفتهم وظهور النفس عليه وتحكم سلطانها فيه مكان البعد الذي يوجد البعد معه والأوّل من المقربين به لأن القرب صفته وخنوس نفسه عنه وتسخيرها له مكان القرب الذي يوجد القرب عنده فذلك من السابقين إلى ربه والمبعد مثبط بنفسه عن ربه وقد قال تعالى:(فَلا تَدْعُ مَعَ الله إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبينَ) الشعراء: ٢١٣، فالبعد حجاب والمبعد في عذاب والقرب نعيم والمقرب على مزيد، ألم تسمع قوله تعالى في تعذيب المحجوب:(كَلاَّ إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لمَحْجُوبُونَ) المطففين: ١٥، ثم إنهم لصالوا لجحيم وقال في ترويح المقربين:(فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبينَ)(فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الواقعة: ٨٨ - ٨٩ روح بقريب وريحان من حبيب وجنة نعيم بقرب منعم وقال المروح بالقرب المحيا بالحضور:
فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً ... وإن غبت فالدنيا علىّ محابس
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر ... عليك ففيمن ليت شعري أنافس
وقال المكروب بالبعد المغصص بالفقد:
فكيف يصنع من أقصاه مالكه ... فليس ينفعه طب الأطباء
من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء
وشتان بين عبد منقطع إلى ربه يخدمه وآخر منقطع لخدمة الخلق يعبدهم وكم بين عبد منقطع عن الناس وبين عبد موصول به الوسواس وشتان بين عبد منقطع بالشوق إلى المولى وبين عبد منقطع بالهوى معانق للدنيا فهذه مقامات المقربين بالحسنى وأضدادها مقامات المبعدين بالسوء فإذا كان العبد على وصف من الحقيقة وفي مقام من التقوى استحق الثناء من مولاه لتحققه بالوصف ونال القرب من القريب لتبعده عن حظوظ النفس، وفي حسن الثناء من العظيم الأعظم غاية الطالبين ونهاية رغبة الراغبين ولا يكون ذلك إلا لأوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وهم أهل القلوب السليمة الطاهرة وذوو الجوارح الخاشعة الذاكرة وأولو الألباب الراجحة الفاخرة وهم ثلاث طبقات من مقربي أصحاب اليمين؛ أهل العلم بالله تعالى، وأهل الحب لله تعالى، وأهل الخوف من الله تعالى فهؤلاء خصوص أوليائه المقربين استحضرهم فحضروا واستحفظهم العلم فحفظوا واستشهدهم عليه فشهدوا فهم الأدلة منه عليه وهو دليلهم إليه وهم جامعو العباد به وهو جامعهم عنده لديه أبدال الأنبياء والربانيون من العلماء أئمة المتقين وأركان الدين أو القوّة والتمكين الذين كشف لهم الكتاب المستبين وهداهم إليه الطريق المستقيم عليه وهم المنظور إلى قلوبهم كفاحاً والمقصودون بالمزيد والتحف مساءً وصباحاً ومن سواهم من عموم المؤمنين من القراء والعباد وأهل المجاهدة والزهد والأوراد قد أعطاهم الولايات وفرقهم في الأعمال والسياحات وأظهر لهم الآيات تسكيناً لقلوبهم بها وطمأنينة