منهم إليها لئلا تدخل عليهم الشبهات فيهلكوا ولا تجذبهم الشهوات فيرجعوا فشغلوا بالإظهار عن الظاهر وحجبوا بالظواهر عن الباطن واغتبطوا بالحجاب وسكنوا إلى الأسباب وعكفوا على المقامات واستتروا بالملكوت والآيات فهم مغبوطو الأموات من أهل الدنيا وهم مرحومو الأحياء من أهل الأعلى لأن قربهم بعد عند المقربين وكشفهم حجب عند المشاهدين وعطاءهم رد عند المواجهين إلا أن الله تعالى نظر إليهم لما نظروا لنفوسهم حكمة ورحمة منه لهم فسكنهم في حالهم ورضاهم بمقامهم كيلا تشتت قلوبهم ولا تتحير عقولهم والسابقون الأوّلون هم الوجهة العليا والمتمسكون بالعروة الوثقى نظروا إليه سبحانه وتعالى به فنظر إليهم منه فهم كما وصفهم:(ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله) لايرجعون إلى مال ولا ينظرون إلى حال يحبهم ويحبون رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه فهم كما وصفوا في الكتب السالفة، قال الحواريون: ياروح الله صف لنا أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون فقال: هم الذين نطق بهم الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا وبهم قام الكتاب وبه قاموا نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها وعاينوا أجل الدنيا حين عاين الناس عاجلها فأماتوا منها ماخشوا أن يميتهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم فصار دركهم منها فواتاً وفرحهم بها حرماناً ما عارضهم منها رفضوه وما أشرف لهم بغير الحق وضعوه خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها وخربت فيما بينهم فلم يعمروها وماتت في صدورهم فلم يحيوها قدموها فبنوا بها آخرهم أحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم أعجب الخبر العجيب، وقال عزّ وجلّ في وصفهم:(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله) المائدة: ٥٠حديثاً والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء وقال تعالى: (شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بالْقِسطِ) آل عمران: ١٨ وفيها مقرأ غريب بمعنى الجمع للشهداء وكأنه جعل وصفاً لما تقدم من ذكرهم في قوله تعالى: (الصَّابِرينَ والصَّادِقينَ) آل عمران: ١٧، إلى قوله:(وَالْمُسْتَغْفِرينَ بِالأسْحَار) آل عمران: ١٧ شهد الله أنه لا إله إلا هو وقال: (كَفَى بِاللهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ) الرعد٤٣، فهذا وصف يزيد على كل وصف ويستغرق نعت الواصفين ويجمع هذه المقامات السبعة من المراقبة والمشاهدة حالان عن مقامين مدار المقامات كلها عليهما ومستخرج المزيد من الكرامات منهما؛ فأحدهما الخوف عن مقام العلم والحال الثاني الرجاء عن مقام العمل، فمن كان مقامه العلم بالله
كان حاله الخوف منه ومن كان مقامه الرجاء لله تعالى كانت حاله المعاملة له، ألم تسمع إلى قوله تعالى:(إنَّما يَخْشَى الله مِِِنْ عِبَاْدِهِ العُلَمَاءُ) فاطر: ٢٨ وقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة رَبَّهِ أَحداً) الكهف١١٠.