المدثر: ٧، ثم فسرّه في الكلام المفسرّ، وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، ومن الصبر حبس النفس على التقوى، والتقوى اسم جامع لكلّ خير، فالصبر معنى داخل في كل برّ فإذا جمعهما العبد فهو من المحسنين وما على المحسنين من سبيل، ومنه قوله تعالى:(إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فإنَّ الله لا يضيعُ أجْرَ الْمُحْسنينَ) يوسف: ٩٠ وقال تعالى: (لَتُبْلوُنَّ في أموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ولَتسْمَعُنَّ مِن الَّذين أُوتُوا الكتابَ مِنْ قبلكمْ ومن الَّذين أشرْكوا أذىً كثيراً وإن تَصبِرُوا وتتَّقُوا فإنَّ ذلك مِنْ عَزْم الأُمورِ) آل عمران: ١٨٦ أي إن تصبروا على الأذى عن المكافأة وتتقوا عند الابتلاء والمكاره ولا تجاوزوا فإنه أفضل كما قال تعالى: (وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل ما عُوقِتْتُمْ بهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خيْرٌ للصّابرينَ) النحل: ١٢٦، وقوله تعالى:(ولمنَِ انْتصَر بَعْد ظُلمهُ فأُولئكَ ما عَليْهِمْ من سبيلٍ) الشورى: ٤١ ثم قال عزّ وجلّ: (وَلَمَنْ صبرَ وغَفرَ إنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) الشورى: ٤٣، قال: فالأول أعني المكافأة والانتصار بالحق من العدل والعدل حسن، والثاني أعني العفو والصبر من الفضل وهو الإحسان وهذا مجاز قوله تعالى:(الَّذين يَسْتَمِعُون الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أحْسنهُ أُولئكَ الَّذين هداهُمُ الله وأُولئكَ هم أولُوا الألْبَابِ) الزمر: ١٨، فاستماع القول هو العدل والعدل حسن وهو الانتصار والعفو أحسن وفيه المدح بالهدى والعقل، وهذا هو مقام المخبتين قيل: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا فالمدح بالوصف لأهل هذا المقام هو الإخبات وهو الخشوع والطمأنينة بحسن الجزاء من الله سبحانه وتعالى في الآخرة لقرب اللقاء وسرعة فناء الدنيا أمدح كما قال تعالى: (وإنَّ السَّاعَة لآتِيَةٌ فاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَميلَ) الحجر: ٨٥، والتقوى والصبر معينان أحدهما منوط بالآخر لا يتم كل واحد منهما إلا بصاحبه فمن كانت التقوى مقامه كان الصبر حاله فصار الصبر أفضل الأحوال من حيث كان التقوى أعلى المقامات إذ الأتقى هو الأكرم عند الله تعالى، والأكرم على الله تعالى هو الأفضل، وقد شرف الله تعالى الصبر بأن أضافه إليه بعد الأمر به فقال:(وَاصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بِالله) النحل: ١٢٧ وقال تعالى: (وَلِربَِّكَ فاصْبِرْ) المدثر: ٧ وإن كان كل شيء به وكل عمل صالح له ولا يصف الله تعالى عبداً ولا يثني عليه حتى يبتليه فإن صبر وخرج من البلاء سليماً مدحه ووصفه وإلا بين له كذبه ودعواه، وقيل لسفيان الثوري رضي الله عنه: ما أفضل الأعمال قال الصبر عند الابتلاء.
وقال بعض العلماء: وأي شيء أفضل من الصبر وقد ذكره الله تعالى في كتابه في نيف وتسعين موضعاً ولا نعلم شيئاً ذكره الله تعالى هذا العدد إلا الصبر فلا يطمعنّ طامع في مدح الله له وحسن ثنائه عليه قبل أن يبتليه فيصبر له ولا يطمعنّ أحد في حقيقة الإيمان وحسن اليقين قبل أن يمدحه الله تعالى ويثني عليه، ولو أظهر الله تعالى على جوارحه سائر الأعمال ثم لم يمدحه بوصف ولم يثن عليه بخير لم يؤمن عليه سوء الخاتمة، وذلك أن من أخلاق الله تعالى أنه إذا أحبّ عبداً ورضي عمله مدحه ووصفه، فمن ابتلاه بكراهة ومشقة أو بهوى وشهوة فصبر لذلك أو صبر عن ذلك، فإن الله تعالى يمدحه ويثني عليه بكرمه وجوده فيدخل هذا العبد في أسماء الموصوفين ويصير واحداً من الممدوحين فعندها يثبت قدمه من الزلل ويخت له بما سبق من صالح العمل، ومن الصبر، صبر على العوافي أن لا يجريها في المخالفة والصبر على الغنى أن لا يبذله في الهوى، والصبر على النعمة أن لا يستعين بها على معصية، فحاجة المؤمن إلى الصبر في هذه المعاني ومطالبته بالصبر عليها كحاجته ومطالبته بالصبر على المكاره والفقر وعلى الشدائد والضرّ، ويقال: إن البلاء والفقر يصبر عليهما المؤمن والعوافي لا يصبر فيها إلا صديق، وكان سهل يقول: الصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء، وكذلك قالت الصحابة رضي الله عنهم: لما فتحت الدنيا فنالوا من العيش واتسعوا ابتلينا بفتنة الضّراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر فعظموا الاختبار بالسرّاء وهو ما سرّ على الاختبار بالضراء وهو ما ضرّ.
وقد قال تعالى:(الَّذينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ) آل عمران: ١٣٤ فمدحهم بوصف واحد في الحالين المختلفين لحسن يقينهم وسخاوة نفوسهم وحقيقة زهدهم، ومن هذا المعنى قول الله تعالى:(يا أيُّها الَّذين آمِنوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله) المنافقون: ٩ لأن فيهما ما يسرّ ويشغل عن الذكر، ثم قال عزّ وجلّ:(إنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَولادِكُمْ عَدْوَّا لَكُمْ فاحْذَرُوهُمْ) التغابن: ١٤ لأن في الأواج والأولاد ما يفرح به فيوافق فيه الهوى ويخالف بوجودهما المولى فصار اعدوين في العقبى لما يؤول إليه من شأنهما، ومن هذا الخبر الذي روى عن النبي لما نظر إلى ابنه الحسن يتعثر في قميصه فنزل عن المنبر واحتضنه ثم قال صدق الله:(إنَّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) التغابن: ١٥ أي لما رأيت ابني هذا لم أملك نفسي أن أخذته، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار، وروي عنه في الحديث أيضاً: الولد محزنة مبخلة مجبنة، فهذه مصادر الحزن والبخل والجبن أي يحمل حب الأولاد والأموال على ذلك، فمن صبر على السرّاء وهي العوافي والغنى والأولاد وغير ذلك وأخذ الأشياء من حقّها ووضعها في حقّها فهو من الصابرين الشاكرين لا يزيد