للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروينا عن الضحاك إن العبد ليدنو من ربه تبارك وتعالى عند العرض فيقول: عبدي أتحصي عملك؟ فيقول: إلهي كيف أحصيه من دونك وأنت الحافظ للأشياء، فيذكره اللّّه تعالى جميع ذنوبه في الدنيا في ساعاتها، فيقول: أنت عبدي فقر بما عرفتك وذكرتك، فيقول نعم سيدي، فيقول اللّّه سبحانه أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، فلم أجعل للذنوب رائحة توجد منك، ولم أجعل في وجهك شينها، وأنا أغفرها لك اليوم على ما كان منك، بإيمانك بي وتصديقك المرسلين.

وروينا عن محمد الحنفية عن أبيه علي كرم الله وجهه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميل) الحجر: ٨٥ قال: يا جبريل وما الصفح الجميل؟ قال: يا محمد إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتب، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل فالله مع كرمه تعالى أولى أن لا يعاتب من عفا عنه، قال فبكى جبريل وبكى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث الله عز وجل إليهما ميكائيل فقال: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول لكما: كيف أعاتب من عفوت عنه، هذا ما لا يشبه كرمي.

ومن الرجاء شدة الشوق إلى ما شوق إليه الكريم وسرعة التنافس في كلّ نفيس ندب إليه الرحيم، فأما الرجاء الذي هو همة جملة الناس من الإقامة في المعاصي والانهماك في الخطايا وهو يرجو المغفرة وينتظر الكرامة، فليس هذا برجاء عند العلماء، لأن الرجاء مقام من اليقين، وليس هذا وصف الموقنين؛ لأن هذا اسمه هو اغترار بالله تعالى، وغفلة عن اللّّه تعالى، وجهل بأحكام الله تعالى.

وقد تهدد الله تعالى قومًا ظنوا مثل هذا، وأصروا على حب الدنيا والرضا بها، وتمنوا المغفرة على ذلك، فسماهم خلفاً، والخلف: الرديء من الناس، وتوعدهم بشديد البأس في قوله عزّ وجلّ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدْنَى ويَقولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) الأعراف: ١٦٩ والأخبار في حقيقة الرجاء تزيد المغترين اغتراراً وتزيد المستدرجين بالستر والنعيم خساراً، وهي مزيد للتوابين الصادقين، وقرة عين المحبين المخلصين، وسرور لأهل الكرم والحياء، وروح ارتياح لذوي العصمة والوفاء، ينتفع به، ويشتد عنده حياؤه، ويروح به كروبهم، وترتاح إليه عقولهم، فهؤلاء يستخرج منهم الرجاء وحسن الظن من العبادات ما لا يستروحه الخوف، إذ المخاوف تقطع عن أكثر المعاملات، فصار الرجاء طريقاً لأهله وصاروا رائجين به كما قال عمر رضي الله عنه: رحم الله صهيباً لو لم يخف الله تعالى لم يعصه: أي يترك المعاصي للرجاء لا للخوف، فصار الرجاء طريقه، فهؤلاء هم الراجون حقًا وهذه علامتهم، ولمثل هذا ذكرنا الأسباب التي توجب الرجاء، وتولد حسن الظن في قلوب أهل الصفاء.

ومن الرجاء تحسين الأخلاق مع الخلق، وجميل الصبر عليهم، وحسن الصفح، ولطيف المداراة لهم تقرباً إلى الله عزّ وجلّ بذلك، وتخلقاً بأخلاقه رجاء ثوابه، وطمعًا

<<  <  ج: ص:  >  >>