يحضر مجلسه، فاحتبس يومًا عنهم وقد اجتمعوا فتكلم عليهم مؤذن الجامع فأنكر صوته رجاء بن حيوة فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان فقال: اسكت عافاك الله إنّا نكره أن نسمع الزهد إلا من أهله، وفي لفظ آخر: إنّا نكره أن نسمع الوعظ إلا من أهل الزهد، وقال عيسى عليه السلام: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم وقال بعض العلماء: تقليب الأموال يمصّ حلاوة الإيمان.
وروينا في الخبر: لكلّ أمة عجل، وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم؛ وكان أصل العجل من الحلية، وقال عزّ وجلّ:(ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) الرعد: ١٧ فكان فهم هذه السنّة عن سمع هذه الآية يقال: مامن يوم ذي شارقة إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات؛ ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب، يقول أحدهما من المشرق: يا باغي الخير هلمّ ويا باغي الشرّ أقصر، ويقول الآخر: اللهم أعط منفعاً خلفاً واعط ممسكاً تلفاً، ويقول أحد اللذين في المغرب: لدوا للموت وابنوا للخراب، ويقول الآخر: كلوا وتمتعوا لطول الحساب، وقال بعض العلماء: إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليجعل أنس المطيعين به وبلغنا أن من دعاء أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: اللهم إني أسألك الذلّ عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف.
وقال بعض العارفين: ما من شيء إلا وهومطروح في الخزائن إلا الفقر مع المعرفة فإنه مخزوم مختوم عليه لا يعطاه إلا من طبع بطابع الشهداء، وقد يحتجّ بعض علماء الدنيا لأنفسهم بتفضيل الغنى على الفقر بتأويل الخبر من قوله تعالى:(ذلِكَ فَضْلُ الله يُوْتيِه مَنْ يَشَاءُ) الجمعة: ٤ وهذا عند أولي الألباب في تدبّر الخطاب معنيّ به الفقراء لأنه قيل لهم في أوّل الكلام: إن فعلتم كذا لم يسبقكم أحد قبلكم ولم يدرككم أحد بعدكم فثبت هذا القول من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصحّ لأنه معصوم في قوله كما هو معصوم في فعله، فلا ينبغي أن ينقض أول الكلام آخره، فما جاء بعده محمول عليه ولم يصلح أن ينقلب لأنه إخبارعن شيء فلا يجوز الرجوع عنه، ولما فعل الأغنياء ما أمر به الفقراء وقف الفقراء في نظر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنظرهم إلى مزيد الأغنياء عليهم بالقول فرجعوا إليه يستفتون منه ما أخبر به قال: لاتعلجوا فإن الذي قلت لكم كما قلت هو فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء وأنتم ممن شاء أن يؤتيه فضله، فصحّ تأويلنا هذا وبطل تأويلهم بدليل قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأوّل، فكان قوله الثاني بالآخر مواطئاً لقوله الأوّل ولم يناقض الأوّل بالآخر، كيف وقد جاء دليل ما قلنا مكشوفاً في الحديث المفسّر الذي رويناه عن زيد بن أسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بعث الفقراء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً فقال: إن رسول الفقراء إليك فقال: مرحبًا بك وبمن جئت من عندهم من عند قوم أحبّهم قال: قالوا: يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالجنة يحجّون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولانقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال رسول