للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما بينهما سوء القضاء ودرك الشقاء للأعداء وحسن التوفيق والاختيار بالسعادة للأولياء من المولى الكريم فقد حرم المدعي لذلك رزقه من الزهد وبخس نصيبه الأوفر من حبّ الفقر ونقص حظّه الأفضل من الآخرة إذ كانت الدنيا ضدّها وجعل ما صرف فيه وما صرف إليه سبباً لنقصان مرتبته من طرائق الزاهدين، وأنه قد اختبر بالدنيا وبما فتح عليه من السرّاء ليظهر صدقه من كذبه فوقع في الفتنة ولم يفطن للابتلاء وصارت مشاهدته هذه إذا كان صادقاً فيها غير كاذب على وجده حجابًا له عن علوم العارفين المعصومين، واستدرج بعلمه هذا لأنه علم من علوم الدنيا يفنى بفنائها لا ثمرة له في الباقية مكر به فيه وعدل به إليه عن علوم الخائفين ومشاهدة الورعين الزاهدين الذين نظروا من الحلال في الدقيق وصدقوا القول في ترك الرغبة بالعمل بالزهد للتحقيق وإن كان كاذباً في مشاهدته ظالماً لنفسه بما ادّعاه من وجده فهو من أولياء الشياطين ومن أئمة المضلين قيض للاعبين وسيق إليهم فتنة لهم ليس إماماً للمتقين بل من الأئمة المضلّين المحرومين أبناء الدنيا الغافلين رغبة في الدنيا وزهداً في طرائق السلف لوجود الطمع وعدم اليقين فقد مكر بهذا المعدول به عن علوم الموقنين وحقائق مشاهدتهم على هذا الوصف الذي أريد به بالذي تقلّب فيه وهولا يشعر بالمكر ولا يعرف الاستدراج بالنِّعم وأنَّى له بعلم ذلك والله تبارك وتعالى يقول: (سنستدرجهم من حيث لا يعملون) الأعراف: ١٨٢

قال تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون) النمل: ٥٠ فهيهات هيهات أن يفطن الممكور لما مكر به أو يعلم المستدرج ما درج فيه لأن الماكر ألطف الماكرين والمدرج أحكم الحاكمين نعوذ بالله تعالى من الاغترار بعلم الإظهار ونسأله الصلاة على نبّيه محمد وآله أجمعين وحسن التوفيق لمشاهدة علم التحقيق، وبمثل ما قلناه جاءت الآثار وكثرت الأخبار إن مثل الدنيا والآخرة كضرتين رضا إحداهما في سخط الأخرى وأنهما بمنزلة المشرق والمغرب من استقبل أحدهما استدبر الآخر، وأنهما بمنزلة كفتّي الميزان رجحان إحداهما بنقصان الأخرى وكان عمر رضي الله عنه يقول: والله إن هما إلا بمنزلة قد حين لك ملئ أحدهما فما هو إلا أن تفرغ أحدهما في الآخر يعني أنك إن امتلأت من الدنيا تفرّغت من الآخرة وإن امتلأت من الآخرة تفرّغت من الدنيا، وإن كان لك ثلث قدح الآخرة أدركت ثلثي قدح الدنيا وإن كان لك ثلثا قدح الآخرة يكون لك ثلث قدح الدنيا، وهذا تمثيل حسن إلا أن فيه شدّة وتدقيقاً، وقال بعض السلف: مثل من زهدفي الدنيا مع التنعم فيها كمثل من يغسل يديه من الغمر بسمك، وقال آخر: مثل من زهد وهو يطلب الدنيا مثل يطفئ النار بالحلفاء، وكان بعض الزاهدين من أهل الشام يتكلم عليهم؛ فكان رجاء بن حيوة فقيه أهل الشام

<<  <  ج: ص:  >  >>