تعالى من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدِاً سرمداً ولانهاية للزهد عند طائفة من العارفين لأنه يقع عن نهاية معارفهم بدقائق أبواب لدنيا وخفايا لوائح الهوى، وقال بعضهم: نهاية الزهد أن تزهد في كل شيء وتتورع عن كلّ شيء للنفس فيه متعة وبه راحة فهذا كما روى عن عيسى عليه السلام أنه وضع تحت رأسه حجرًا فكأنه لما ارتفع رأسه عن الأرض استراح بذلك فعارضه إبليس فقال: يا ابن مريم ألست تزعم أنك قد زهدت في الدنيا قال: نعم، قال: فهذا الذي وطأته تحت رأسك من أي شيء هو؟ قال: فرمى عيسى عليه السلام بالحجر، وقال: هذا لك مع ما تركت ومثله.
روينا عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى نقب جلده فسألته أمه أن ينزع مدرعته الشعر ويلبس مكانها جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه: يا يحىى آثرت عليّ الدنيا قال: فبكى ونزع الصوف ورد مدرعته الشعر على جسده، وكان الحسن يقول: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبًا قطّ، كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه واعلم أنّي رأيت جمل النعم ثلاثًا وتمامها بالزهد، وذلك أن أصل النّعم كلّها الإسلام، لأن من ورائه مقامات كثيرة أخطأوا فيها حقيقة التوحيد، ثم النعمة الثانية السنّة، إذ من ورائها بدع كثيرة كلّهم أخطأوا حقيقة السنة، والنعمة الثالثة العلم بالله تعالى لأن من ورائه جهلاً كثيراً بعظمة الله تعالى وقدرته، ثم الزهد في الدنيا فمن أعطيه مع الثلاث تمّت عليه النّعم فكان مع الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أي تمّت نعمة الله عليهم لأن من ورائه حرصًا كثيرًا على الشبهات ورغبة عظيمة في الشهوات.
وقد كان سهل رحمه الله تعالى يجعل الزهد من شرط السنّة والاتباع لقوله تعالى:(قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتِبِعُوني) آل عمران: ٣١ قال: فمن السنّة اتّباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان زاهداً ثم تفاوت الزاهدون لأيّ شيء زهدوا مقامات على نحو علوّ المشاهدات، فمنهم من زهد إجلالاً لله تعالى، ومنهم من زهد حياءً من اللّّه تعالى، ومنهم من زهد خوفاً من الله تعالى ومنهم من زهد رجاء موعود الله تعالى ومنهم من زهد مسارعة منه لأمر الله تعالى ومنهم من زهد حبّاً لله تعالى وهو أعلاهم وأدناهم من زهد مخافة طول الوقوف ومناقشة الحساب كما قيل: ذو الدرهمين أشدّ حسابًا يوم القيامة من ذي الدرهم ولأن طريق المتقين لا يسلكه من ملك في الدنيا زوجين من شيء، ما أحد يعطي من الدنيا شيئًا إلا قيل: خذه على ثلاثة أثلاث؛ ثلث همّ، وثلث شغل، وثلث حساب، وأن الرجل من الأغنياء ليوقف للحساب ما لو ورد مائة بعير عطاش على عرقه لصدرن رواء وإنه ليرى منازله من الجنة فلما وقر هذا في قلوب الورعين أشفقوا من طول الحساب فزهدوا في الجمع والمنع وفارقوا فضول الآمال طلبًا لخفة السؤال وسرعة