للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فإنه كان يقول ليس الزاهد من لا يملك شيئاً إنما الزاهد من لا يملكه شيء وقال عالم مثله في معناه: الزاهد من لا يتملك الأشياء ولم يسكن إليها، وكان يقول: الزاهد قوته ما وجد وثوبه ما ستر وبيته ما أواه وحاله وقته.

وقال بعض العارفين: الزهد إنما هو ترك التدبير والاختيار والرضا والتسليم لاختياره شدة كان أو رخاء، وهذا طريق الخواص والثوري وذي النون رحمهم الله تعالى، وقال أبو يزيد رحمه الله مرة: إنما الزاهد من لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء، وقال: حقيقة الزهد لا يكون إلا عند ظهور القدرة والعاجز لا يصحّ زهده هو أن يعطيه كن ويطلبه على الاسم ويقدره على الأشياء بإظهار الكون فيزهد في ذلك حياءً من الله تعالى ويتركه حبّاً له، وكان يستعيذ بالله من أربعة وعشرين مقاماً من إظهار القدرة وقال لأبي موسى عبد الرحيم في أي شيء تتكلم؟ قلت: في الزهد قال: في أيّ شيء قلت: في الدنيا قال: فنفض يده وقال: ظننت أنه يتكلم في الزهد في شيء الدنيا لا شيء أيش تزهد فيه، وذهب إلى هذا المعنى سهل وغيره، وقال سبعة عشر مقاماً في المعرفة أدناها المشي على الماء وفي الهواء وظهور كنوز الأرض وهذا كله من زخرف الدنيا.

وقد حكي لنا معنى هذا عن الجنيد قال: اجتمع أربعة من الأبدال في جامع المنصور ليلة العيد فلما أسحروا قال أحدهم: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد في بيت المقدس، وقال الآخر: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد بطرسوس، وقال الثالث: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد بمكة، وسكت الرابع وكان أعرفهم فقيل له: أنت أيّ شيء نويت فقال: أما أنا فقد نويت اليوم ترك الشهوات لا أصلي إلا في هذا المسجد الذي بتّ فيه فقالوا: أنت أعلمنا فقعدوا عنده فصار عند هؤلاء كما ذكرناه آنفاً أن هذه الآيات هي من الشهوات إذ ليست حاجات مقامات والشهوة من الدنيا لأنها من الهوى وأيضاً ففيها تدبير واختيار، وعند الزهاد العارفين والمحبين أن هذا مكر وخداع يبتلون به ويقتطعون لينظر كيف يعملون إذاً ابتلاء كل عبد على قدر مرتبته وحاله فيلزمه الزهد فيه ويقال: هي في المقام السابع عشر من المعرفة فمن سلك به الطريق رآها فيه وفوقها نيف وسبعون مقاماً أفضل من ذلك.

وقد سئل الجنيد عن الزهد فقال معنيان: ظاهر وباطن، فالظاهر بغض ما في الأيدي من الأملاك وترك طلب المفقود، والباطن زوال الرغبة عن القلب ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك، فإذا تحقق بذلك رزقه الله تعالى الإشراف على الآخرة والنظر إليها بقلبه، فحينئذ يحد في العلم بتقصير الأمل وتقريب الأجل لأن الأسباب عن قلبه منقطعة والقلب منفرد الآخرة، وحقيقة الزهد قد خلصت إلى قلبه فامتلأ من الذكر الخالص لربّه سبحانه وتعالى، فالزهد عن حقيقة الإيمان والمشاهدة للآخرة تكون بعد الزهد واستواء الأشياء،

<<  <  ج: ص:  >  >>