للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعض الراضين يجعل ذم الأشياء وعيبها بمنزلة الغيبة لصانعها لأنها صنعته ونتاج حكمته، ونفاد علمه وحكم تدبيره وتدبير مقاديره، لأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين وأحسن الخاقين، له في كل شيء حكمة بالغة وفي كل صنعة صنع متقن، ولأنّك إذا عبت صنعة أحد وذممتها سرى ذلك إلى الصانع، لأنّه كذلك صنعها وعن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها في خلقتها، وكان الورعون لا يعيبون صنعة عند كراهة الغيبة له وذلك أنّ الراضي عن الله متأدب بين يدي الله يستحي أن يعارضه في داره أو يعترض عليه في حكمه، فصاحب الدار يصنع في حكمه ما شاء والحاكم يحكم بأمره كيف شاء، والعبد راضٍ بصنع سيده مسلم لحكمة حاكمه

وروي في الإسرائيليات أن عيسى عليه السلام مرّ مع نفر من أصحابه بجيفة كلب فغطوا آنافهم وقالوا: أف أف، ما أنتن ريحه فلم يخمر عيسى عليه السلام أنفه وقال: ما أشد بياض أسنانه، أراد أن ينهاهم بذلك عن الغيبة ويعلمهم ترك عيب الأشياء، كيف هو يرى بعين نفسه أنّ الصنعة من صانعها، فهو يقلبها ويصرفها على معاني نظره، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وقال أنس: خدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين، ليس كل امرئ كما يريد صاحبي، ما قال لي لشيء فعلته: لما فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته، ولا قال في شيء كان: ليته لم يكن ولا لشيء لم يكن: ليته كان، وكان يقول: لو قضى شيء لكان، وهذا وصف الراضي الموقن القائم بشهادته، فبالنظر في هذه الدقائق والوقوف عندها رفع القوم عند الله إلى مقام المقربين، وبالتهاون بها والغفلة عنها نغلت القلوب ففسدت حتى لم تصلح للمحبة والرضا، وهذه المعاني من الاعتراضات، والتخير هو تقدم بين يدي الله وذاك التدبير الذي يشير إليه سهل ويقول: إنّ تدبير الخلق حجبهم عن الله عزّ وجلّ، وحكي لنا أنّ بعضهم صحب بعض العارفين في طريق فعبث بشيء فنحاه من مكان إلى مكان آخر فقال له العارف: ماذا صنعت؟ أحدثت في الملك حدثاً عن غير ضرورة ولا سنّة، ولا تصحبني أبداً فلو لم يكن لنا من الذنوب إلا هذه الأشياء لقد كان كافياً، وفوق ذلك تهاوننا بها وأعظم من ذلك ترك التوبة والاستغفار منها، وأعمال طلاب الرضا من الله مضاعفة على أعمال المجاهدين في سبيل الله لأن أعمال المجاهدين تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وتضعيف طالبي الرضا لا تحصى، قال الله تعالى: (وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) البقرة: ٢٦١، وقال تعالى: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثيَرةً) البقرة: ٢٤٥، قيل: الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، وقد قال سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذينَ يُنِفْقُونَ أَمَوالَهُمُ ابِتْغَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>