للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المعاملة هو فاضل، بعد هذين مقامهُ قوّة الرجاء وحسن الظن في العصمة، وله أيصاَ مطالعات من الأنس وملاحظات في القرب، به طاب مقامه وعنده سكنت نفسه وقصرت أيامه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل المؤمنين إيماناً أو قال: أكمل المؤمنين إيماناً من طال عمره وحسن عمله، هذا لأن الأعمال مقتضى الإيمان إذ حقيقة الإيمان إنما هو قول وعمل، وليس بعد هؤلاء مقام يفرح به ولا يغبط صاحبه عليه، ولا يوصف بمدح إنما هو حب البقاء لمتعة النفس وموافقة الهوى، وقد تشرف النفس على الضعفاء من أهل هذا الطريق ويختفي فيها علة، وهو أن يحب البقاء لأجل النفس وللمتعة بروح الدنيا وما طبعت عليه من حب الحياة، وتكره الموت لمنافرة الطبع ولطول الأمل، فيتوهم أنه ممن يحب البقاء لأجل الله وطاعته، وهذا هو من الشهوة الخفية التي لا يخرجها إلا حقيقة الزهد في الدنيا، ولا يفضل في هذا الطريق االثالث إلا عارف زاهد دائم المشاهدة باليقين، فأما المعتل بوصفه وهواه فليس يقع به اعتبار في طريق ولا مقام، واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، فأما اليوم فوددت أني مت فقال له يوسف: ولِمَ؟ قال لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري: ولِمَ تكره الموت قال: لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت فقال: أنا لا أختار شيئاً أحبّ ذلك إليّ أحبه إلى الله قال: فقبّل الثوري ما بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة، يعني مقام الروحانيين وهم المقربون أهل الروح والريحان، وأولو المحبة والرضوان، كما قال تعالي (فَرَوْحٌُ وَرَيَحانٌ) الواقعة: ٨٩، يعني لهم ريح من نسيم القرب وريحان من طيب الحب، وأيضاً أنّه تعالى لما ذكر أنّ، لأصحاب اليمين في كل شدة وهول سلامة، وكان المقربون هم الأعلون، كان أيضاً فيما دلّ الفهم عليه، أنّ للمقربين من كل هول روحاً به لشهادتهم القريب، وفي كل قرب منه ريحان لقرب الحبيب فبذلك علوا وبذلك فضلوا، وهكذا قال بعض الصوفية: سرّ العارف في الأشياء واقف مثل الماء في البئر لا يختار المقام وإن أخرج خرج، فإن ذم هذا الراضي ما ذمه الله، وكره ما كرهه الله لم ينقص ذلك رضاه، وكان محسناً في فعله لموافقته مولاه، وإن لم يرضَ بحاله نقص في الدين والآخرة أو كره مزيد الدنيا من الكثرة والجمع والادخار لم يقدح ذلك في رضاه لأنه من التحقق بالزهد، وهو في جميع ذلك موافق للعلم، والله تعالى أعلم بأحكامه من العبد وأغير على نفسه من الغير، وأعلى مشاهدة من الخلق، له المثل الأعلى، فهو على

<<  <  ج: ص:  >  >>