وقال نظيره في مثله: وأترك ما أهوى لمن قد هويته، وأرضى بما يرضى وإن سخطت نفسي، ثم الطمأنينة إلى الحبيب وعكوف الهم على القريب ودوام النظر، وسياحة الفكر لأن من عرفه أحبه، ومن أحبه نظر إليه، ومن نظر إليه عكف عليه، أما فهمت هذا من قوله تعالى:(وَانْظُرْ إِلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) طه: ٩٧ ومن فرائض المحبة وفضائلها؛ موافقة الحبيب فيما أحب حبّ الله، كما قال عمر رضي الله عنه لصهيب رحم الله صهيباً: لو لم يخف الله لم يعصه؛ أي أنّ محبته له تمنعه من مخالفته عن غير خيفة، فهو يطيعه حبّاً له، وكان صهيب يقول إنّه يستخرج من حبي لربي شيئاً لا يستخرجه غيره؛ يعني من معاني الصفات المخوفة والأفعال المرجوة، وقال بعض علمائنا: الإيثار يشهد للحب، فعلامة حبه إيثاره على نفسك، وقال: ليس كل من عمل بطاعة الله صار حبيباً لله، ولكن كل من اجتنب ما نهاه صار حبيباً وهذا كما قال: إنَّ المحبة تستبين بترك المخالفة، ولا تبين بكثرة الأعمال، كما قيل: أعمال البرّ يعملها البرّ والفاجر والمعاصي لا يتركها إلا صديق، وقيل: أفضل منازل الطاعات الصبر على الطاعات، وإن الصبر على الطاعة يضاعف إلى سبعين، والصبر عن المعصية يضاعف إلى سبعمائة كأنه أقيم مقام المجاهد في سبيل الله، لأنه يقع اختباراً من الله وضرورة من كلية النفس، فإذا ترك هواه فقد ترك نفسه، فأقلّ ما له في ذلك الزهد في الدنيا والجهاد في سبيل الله، ومن أجل ذلك ضوعفت حسناته إلى سبعمائة، ومن أجله ثبتت له المحبة بترك المخالفة، قال الله تعالى:(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن: ٤٦ تفضله على غيره بحبه، وأعجب ما سمعت في هذا أنّ موسى سأل الخضر: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ فقال: بترك المعاصي كلها، وقد كان أبو محمد يقول في قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفَسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) التوبة: ١١١، قال: عيش نفوسهم الفاني وهو عاجل حظوظهم من الشهوات، ومن المحبة وجود الروح بالشكوى إليه والاستراحة إلى علمه به وحده، وإخلاص المعاملة لوجهه وحسن الأدب فيها، وهو الإخفاء لها وكتم ما يحكم به من الضيق والشدائد، وإظهار ما ينعم به من الإلطاف والفوائد وكثرة التفكر في نعمائه وخفيّ ألطافه، وغرائب صنعه وعجائب قدرته وحسن الثناء عليه في كل حال، ونشر الآلاء منه والأفضال والصبر على بلائه، لأنه قد صار من أهله وأوليائه، وقد يعسف بأوليائه ويعنف بأحبابه لتمكنه منهم ومكانتهم عنده، ولعلمه أنهم لا يريدون له بدلاً ولا يبغون عنه حولاً، إذ ليست لهم راحة لسواه ولا بغية في سواه ولا لهم همّة إلاّ إياه، كما قال بعض المحبين: ويلي منك وويلي عليك، أفزع منك وأشتاق إليك، إن طلبتك أتعبتني وإن هربت منك طلبتني، فليس لي معك راحة ولا لي في غيرك استراحة، ثم المسارعة إلى ما ندب إليه من أنواع البرّ بوجود الحلاوة وبشرح الصدر كما جاء في الأثر، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، ثم الرضا بقضائه لأنه