ثم قال في نعت شراب المقربين ومزاجه، يعني مزاج شراب الأبرار: من تسنيم عيناً يشرب بها المقرّبون؛ أيّ يشربها المقرّبون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين، فما طال شراب الأبرار إلا بمزاج شراب المقربين، فعبّر عن جمع نعيم الجنان بالشراب، كما عبّر عن العلوم والأعمال بالكتاب، فقال في نعت الأبرار مثله؛ إنّ كتاب الأبرار لفي عليين، ثم قال: يشهده المقربون؛ فما حسن علمهم ولا صفت أعمالهم، ولا علا كتابهم إلاّ بشهادة المقربين لما قرب منهم وحضروه، كذلك كانوا في الدنيا تحسن علومهم بعلمهم وترتفع أعمالهم بمشاهدتهم، ويجدون المزيد في نفوسهم بقربهم منهم، كما بدأنا أول خلق نعيده، وقلا تعالى:(جَزَاءً وِفَاقَاً) النبأ: ٢٦ أي وافق أعمالهم، وقال تعالى:(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) الأنعام: ١٣٩ أي كوصفهم في الدنيا إنّه حكيم عليم؛ فمن كان في هذه الدار نعيمه طيبات الملك، فكذلك غداً يكون الملك نعيمه، ومن كان فيها نعيمه وروحه بالطيب الملك، فهو غداً في مقعد صدق عند مليكه، كما قال أبو سليمان الداراني: مَنْ كَان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومَنْ كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربّه، وقد روينا عن رابعة العدوية وكانت إحدى المحبين، وكان الثوري يقعد بين يديها ويقول: علّمينا مما أفادك الله من ظرائف الحكمة، وكانت تقول: نعم الرجل أنت لولا أنّك تحب الدنيا، وقد كان رحمه الله زاهداً في الدنيا عالماً، إلاّ إنّها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا، وقال لها الثوري يوماً: لكل عبد شريطة ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ماعبدت الله خوفاً من الله، فأكون كالأمة السوء إن خافت عملت، ولا حبًّا للجنة فأكون كأمة السوء إن أعطيت عملت، ولكني عبدته حبًّا له وشوقاً إليه، وروى عنهاحمّاد بن زيد أنها قالت: إني لأستحي إن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها، وكان هذا جواباً لأنّه قال لها: اذكري لي حوائجك حتى أقضيها، وخطبها عبد الواحد بن زيد فقالت: يا شهواني اطلب شهوانية مثلك، أي شيء رأيت فيَّ من آلة الشهوة؟ وخطبها محمد بن سليمان أمير البصرة على مائة ألف وقال لي: غلة عشرة آلاف في كل شهر أدفعها إليك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد وأنّ كل ما تملكه لي وأنك شغلتني عن اللهّ طرفة عين، وقدقالت: في معنى المحبة أبياتاً تحتاج إلى شرح، حملها عنها أهل البصرة وغيرهم، منهم جعفر بن سليمان الضبعي وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبد الواحد بن زيد:
أحبُّك حبين: حب الهوى ... وحبُّا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا