فمرّ بآخرين يتعبدّون فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبون لله، لم نعبده خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنة ولكن حبّاً له وتعظيماً لجلاله فقال: أنتم أولياء الله حقّاً، معكم أمرت أن أقيم فأقام بين أظهرهم، وفي لفظ آخر أنه قال للأوّلين: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً أحببتم، وقال لهؤلاء: أنتم المقربون، وممن روى عنه هذا القول وأقيم في هذا المقام جماعة من التابعين بإحسان منهم: أبو حازم المدني كان يقول إني لأستحي من ربّي أن أعبده خوفاً من العقاب، فأكون مثل العبد السوء إن لم يعطَ أجر عمله لم يعمل، ولكن أعبده محبة له، وقد روينا معنى هذا الكلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يكون أحدكم كالعبد السوء؛ إن خاف عمل، ولا كالأجير السوء إن لم يعطَ أجراً لم يعمل، وقال بعض إخوان معروف له: أخبرني عنك أي شيء أحاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شيء الموت؟ قلت: ذكر القبر والبرزخ فقال: وأي شيء القبر؟ فقلت: خوف النار ورجاء الجنة فقال: وأيّ شيء هذا؟ إنّ واحداً بيده هذا كله إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.
وحدثت عن عليّ بن الموفق قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفّح وجوه قوم، فيدخل بعضاً ويرد بعضاً، قال: ثم جاوزتها إلى حظيرة القدس، فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله عزّ وجلّ لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ فقال: معروف الكرخي عبد الله لا خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنته بل حبّاً له، فقد أباحه النظر إليه إلى يوم القيامة، قلت: فمن الآخران قال: أخواك بشر بن الحرث وأحمد بن حنبل، وهذا مقام الأبدال من الصدّيقين، لا يقامون مقام أبدال الأنبياء ولا يعطون منازل الشهداء، حتى تغلب محبة الله على قلوبهم في كل حال فيتألهون إليه، ويذهلون به عن غيره وينسون في ذكره من سواه، فيعبدونه لأجله صرفاً، وهم، المقربون ونعيمهم في الجنان صرف، ويمزج لأهل المزج وهم أصحاب اليمين، كما قال تعالى في وصف نعيمهم:(إِنَّ الأَبْرَارَ لَفي نَعيمٍ)(عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)(تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعيمِ)(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحيقٍ مَخْتُومٍ) المطففين: ٢٢ - ٢٣ - ٢٤ - ٢٥