هذا خلق لخلق وعبد لعبد، فكيف بخلق لخالق وعبد لمعبود، فكان ذلك سببه فقد دخلت الأموال في الأنفس تحت الشراء، وقد باعوه نفوسهم فما دونها لمحبتهم إياه، وقد اشتراها منهم لنفاستها عنده، فعلامة محبته لها اشتراؤها منهم، وعلامة شرائها طيّها عنهم؛ فإذا طواها فلم يكن عليهم منها بقية هوى في سواه، فقد اشتراها، واعلم أنّ آفات النفوس هي أدواؤها، وطهرة النفوس من الأدواء هو داؤها، كما قال تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا) الشمس: ٩، فإذا صفاها من الآفات فقد صافاها، وإذا امتحنها بالتمحيص من الشهوات للتقوى فقد اشتراها، ولكل داء من النفس دواء على قدر صغره وعظمه، فضع الدواء على الداء من حيث دخل عليك، بإدخال ضده عليه وبقطع أصله عنه، فعلامة النفوس المشتراة وهي المحبوبة المجتباة، التوبة إلى الحبيب بالخدمة له وكثرة الحمد له بالسياحة إليه ودوام الصلاة، بحسن الأدب بين يديه والأمر بما يحب والنهي عمّا يكره والحفظ بحدوده التي حدّها وترتيب العلم على مدارج العقل، بإخفاء علم التوحيد وأسرار قيومية القدرة من المحافظة، لأنّ العقل حدّ، وذلك من كتمان علم المحبة، فهو عند المحبين كحفظ حدوده على الجوارح التي شرعها بألسنة الرسل، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهرين، والله يحب المتّقين، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد أن يحبه الله فليزهد في الدنيا، فلا يطمعن طامع في محبة الله قبل الزهد في الدنيا، فهذه جمل أوصاف المحبين، ومن المحبة أن لا يطلب خدمة سواه وأن يجتمع في محبته همه وهواه، ولا يهوي إلا ما فيه رضا المولى، ولا يقضي عليه مولاه إلا بما يهواه.
وروي عن بعض العلماء إذا رأيته يوحشك من خلقه، فاعمل أنّه يريد أن يؤنسك به وفي أخبار داود عليه السلام أنّ الله تعالى أوحى إليه: إنّ أودّ الأودّاء إليّ من عبدني لغير نوال، لكن ليعطي الربوبية حقها، وفيما نقل وهب من الزبور، ومن أظلم ممن عبدني لجنة أونار لو لم أخلق جنة ولا ناراً لم أكن أهلاً أن أطاع، أو كما قال، وفي أخبار عيسى: إذا رأيت التقيّ مشغوفاً في طلب الربّ فقد ألهاه ذلك عمّا سواه، وعن عيسى عليه السلام: المحب لله يحب النصب، وروي عنه أنّه مرّ على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية فقال: ماأنتم؟ فقالوا: نحن عبّاد قال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خوّفنا الله من النار فخفنا منها فقال: وحق على الله أن يؤمنكم ما خفتم، ثم جاوزهم فمرّ بآخرين أشدّ عبادة منهم فقال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: شوّقنا الله إلى الجنان وما أعدّ فيها لأوليائه فنحن نرجو ذلك، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم، ثم جاوزهم