للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فليس بعجب، ولكن من أعزّ وأكرم فتواضع وذلّ فهو العجب، فللمحبين الانقباض في البسط، وللخائفين الانقباض في القبض، وللمحبين الذلّ مع العزّ والكرامة، وللخائفين الذلة مع الهيبة والمهنة، فهذا يدل على أنّ معرفة المحبين به أعظم المعارف إذ كانت أوائل أحوالهم المخاوف، فكل محبّ لله خائف وليس كل خائف محبًّا يعني محبة المقربين، لأنّه لم يذق طعم الحبّ لأنّ طعم محبة المسلمين المفترضة لا يقع بها اعتبار في مقامات الخصوص، لأنّه لا يوجد عنها مواجيد الأحوال، ولا يعلى بها في مشاهدات الأنتفال، لأنها قوت الإيمان، منوطة بصحته وموجودة بوجوده، والمحبة لا ترفع الهيبة، فلذلك كان محبّاً خائفاً لأنّ المحبوب مهوب، والخوف قد يقبض عن المحبة لشغل الخائف بوصفه السالف، وهذا كشف الأبرار وهو حجاب المقرب من المحبة قوت، وهذا كما يقول في الرجاء والخوف لأنهما وصفا الإيمان، إلا إنّ الخائف يتدرج الرجاء في حاله والراجي ينطوي الخوف في رجائه، وفي سبق ترتيب المقامات من الله تعالى حكم غريب وحكمة لطيفة لا يعرفها إلا من أعطى يقين شهادتها، إن سبق إلى العبد بمقام الخوف كان محبًّا حبّ المقربين العارفين، وإن سبق إليه بمقام المحبة كان محبًّا محبة أصحاب اليمين، ولم يكن له مقامات المحبين المستأنسين ولا المشتاقين في مقامات المقربين، وكل هؤلاء موقنون صالحون وإن خرجت أحوالهم عن ترتيب علوم أهل الظاهر، لأن المنكر له أكثر من المقرّ، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون، وربما كانت المحبة ثواباً للخوف ومزيداً له وهذا في مقام العاملين، وربما كان الخوف مزيد المحبة وثوابها وهذا في مقام العالمين، فمن كانت المحبة مزيده بعد الخوف فهو من المقربين المحبوبين، ومَنْ كان الخوف مزيد محبتّه فهذا من الأبرار المحبين، وهم أصحاب اليمين.

وسئل بعض علمائنا البصريين: الحبّ أفضل أو الحياء؟ فقال: الحب الذي يورث منه الخوف، الحياء أفضل من، والحبّ الذي يورث الحياء منه أفضل من الحياء وهو الشوق، وقال الجنيد: المحبة نفسها قرب القلب من الله بالاستنارة والفرح، فأما حبّ تجلي الصفات عن الأسماء الباطنة فإنّا لم نذكر منها شيئاً، وإنما ذكرنا محبة الأخلاق عن الأسماء الظاهرة، ولا أحسب أنه يحل رسمه في كتاب ولا كشفه لعموم الناس لأنّه من سرّ المحبة لا يكاشف به إلا مَنْ اطلع عليه ولا يتحدث به إلا مَنْ أعطيه، وما رأيت أحداً رسمه في كتاب لأنّه لا يؤخذ من كتاب، وإنما يتلقى من أفواه العلماء، وينسخ من قلب إلى قلب، وهو يشبه ماكتبنا عنه آنفاً من الخوف الثامن الذي لم نصفه لمن لا يعرفه، ومما نقل في الأثر من وصف من أذيق منه ولم يفصح بذكر وصفه أنّا روينا في الأخبار: أنّ بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله أن يرزقه ذرة من محبته

<<  <  ج: ص:  >  >>