للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففعل ذلك، فهام في الجبال وحار عقله، ووله قلبه، وبقي شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل له الصدّيق ربه فقال: يارب انقصه من الذرة نصفها، فأوحى الله إليه إنما أعطنياه جزءاً من مائة ألف جزء من ذرة من المعرفة، وذلك أنّ مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخّرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته، فقسمت ذرة من المحبة بين مائة ألف عبد فهذا ما أصابه من ذلك، فقلت: سبحانك أحكم الحاكمين انقصه مما أعطيته، قال: فأذهب الله عنه جملة ذلك الجزء وبقي فيه عشر معشاره وهو جزء من ألف جزء، فاعتدل خوفه وحبه وعلمه ورجاؤه، وصار كسائر العارفين، ومن علم المحبة سهر الليل بمناجاة الجليل، والحنين إلى الغروب شوقاً إلى الخلوة بالمحبوب، ومناجاة القلب سرائر الوجد، ومطالعة الغيب والمناجاة عند أهل المصافاة، إنما هي بالقلوب وهي مطالعاتها بواطن الغيوب، وجولانها في سرّ الملكوت وعلوّها في معاني الجبروت بأنوار أرواحها، يحملها شعاع أنواره فيوقعها على خزائن أسراره، والمناجاة دليل رؤية القرب وشاهد وجود الأنس، وفيما أخبرنا عن الله تعالى أنه قال: كذب من ادّعى محبتي إذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحبّ الخلوة بحبيبه، فها أنا ذا قريب من أحبابي أسمع سرّهم ونجواهم وأشهد حنينهم وشكواهم.

وروينا عن بعض العلماء القدماء أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصدّيقين: أنّ لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبّهم، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم، يذكروني وأذكرهم، وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتّك، قال: يارب: وماعلامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحنّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرّة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا لي أقدامهم، وافترشوا لي وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملّقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوّه وشاكٍ، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشتكون من حبي، فأول ما أعطيهم ثلاثاً أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات والأرض ومافيهما في موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وأما الشوق فإنه مقام رفيع من مقامات المحبة، وليس يبقى الشوق للعبد راحة ولا نعيماً في غير مشوقه، والمشتاقون مقرّبون بما أشهدوا من الشوق إليه، وهم المأمور بطلبهم، الموجود الحبيب عندهم مثوبة منه لهم لما شوقهم إليه في قوله لموسى عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، هم المشتاقون من المحبين والله أعلم،

<<  <  ج: ص:  >  >>