للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أن الحبيب قرب منهم بوصفه تكرّماً، ففرحوا بقربه، وعاشوا بمشاهدته، ونعموا لحضورهم عنده، ثم احتجب عنهم غيرة على نفسه لعزّه فانكسرت قلوبهم لأجله، فاشتاقوا إلى ما عودهم منه، فثبتت لديه حرمتهم، فأمر أولياءه بطلبهم، وأوجد نفسه عندهم لمكانتهم عنده، ففرح هؤلاء من المحبين بقربه لا يوصف، وانكسارهم، وحزنهم لأجله لا يعرف، والله سبحانه قد يعرض عن محبيه تعزّزاً ليزعجهم الشوق إليه، ويقلقهم الأسف عليه، وينظر إليه في إعراضه عنهم من حيث لا يعلمون لينظروا إليه من حيث يعلمون، فسيكنون بالأدب بين يديه، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم، وكان أحد المشتاقين وهو من أبدال هؤلاء الذين نتكلم في علمهم ونكشف طريقهم، وكانت له رحمه الله أماكن من المحبة رفيعة، وكاشفات في القرب عليه، قال: قلت ذات يوم يا رب إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما تسكن به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك، فقد أضرّ بي القلق، قال: فرأيت في المنام أنه أوقفني بين يديه، فقال: يا إبراهيم، أما استحيت مني أن تسألني ما يسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه أم هل يستروح المحبُّ إلى غير مشوقه؟ قال: قلت: يا رب تهت في حبك فلم أدرِ ما أقول فاغفر لي وعلمني كيف أقول، فقال: قل اللهم رضني بقضائك، وصبّرني على بلائك، وأوزعني شكر نعمائك.

وقد حدثونا بمعنى ذلك عن أحمد بن عيسى الخراز، وكان مشتهراً بالسماع كثير الحركة والصعق عنده، ذكر بعض أصحاب سهل قال: رأيته في المنام بعد موته فقلت: ما فعل الله بك فقال: أوقفني بين يديه، فقال لي: يا أحمد حملت وصفي على ليلي وسعدي لولا أني نظرت إليك في مقام واحد أردتني به خالصاً لعذبتك، قال: وأقامني من وراء حجاب الخوف فأرعدت وفزعت ما شاء الله، ثم أقامني من وراء حجاب الرضا فقلت: يا سيدي لم أجد من يحملني غيرك، فطرحت نفسي فقال: فقل: صدقت من أين تجد من يحملك غيري؟ قال: وأمر بي إلى الجنة، وفي هذا تخويف للسامعين على التشبيه، الحائدين عن سمع أهل الفهم والتنبيه، لأنّ السماع علم لا يصلح إلا لأهل الصفاء، فمن سمعه على كدر فذاك له محنة وضرر، ويدخل من الآفات على نقصان المشاهدات إذا سمع من قبل النغمة والصوت مايدخل على من نظر إلى الأيدي في العطاء، لأنّ الصوت ظرف للمعاني بمنزلة اليد ظرفاً للأرزاق، فالنظر الموقن يأخذ رزقه من اليد، ويترك النظر والسامع المحق، يأخذ المعاني من الصوت ولا يلتفت إلى التنغيم بها، فمن سمع على التشبيه والتمثيل ألحد، ومن سمع على الهوى والشهوة فهو لعب ولها، ومن سمع باستخراج الفهم ومشاهدة العلم على معاني صفات حقّ ونظر وتطرق ودليل على آيات صدق، كان سامعاً على مزيد، وهذه طرائق أهل التوحيد، وفي السماع حرام وحلال وشبهة، فمن سمعه بنفس بمشاهدة هوى وشهوة فهو حرام، وَمنْ سمعه بمعقوله على صفة

<<  <  ج: ص:  >  >>