للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مباح من جارية وزوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، وفعل هذا بعض السلف من التابعين، ومن سمعه بقلب بمشاهدة معان تدله على الدليل وتشهده طرقات الجليل فهذا مباح، لا يصحّ إلاّ لأهله ممن كان له نصيب منه، ووجد في قلبه مكاناً له لعبد أقيم مقام حزن، أو شوق أو في مقام خوف، أو محبة، فيحركه السمع ويخرجه إلى الشهادة، فيكون ذلك مزيده من السمع، فأمّا من سمعه على نغمة، أو لأجل صوت، أو ليلهو به، أو ليستروح إليه، فهذا لاعب لاه لا يحلّ له إذ ليس مراداً به، وكان الجنيد يقول: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواطن، عند الطعام لأنهم لا يأكلون إلاّ عن فاقة، وعند المذاكرة لأنهم يتذاكرون أحوال النبيين، ومقامات الصدِيقين، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقّاً، وكان بعض العارفين يقول: تعرف مواجيد أصحابنا في ثلاثة أشياء، عند المسائل وعند الغضب، وعند السماع، وإنما ذكرنا هذا لأنّه كان طريقاً لبعض المحبين وحالاً لبعض المشتاقين، فإن أنكرناه مجملاً فقد أنكرنا على تسعين صادقاً من خيار الأمة، وقد دخل فيه غير أهله فأحالوه عن وجهته، وعدلوا به عن قصده، وقد كان بعض السامعين يقتات السماع فيجعله قوته، ويتقوى به على زيادة طيه، وأحدهم يطوي اليومين والثلاثة، فإذا تاقت نفسه إلى القوت عدل بها إلى السماع، فأثار منه مواجيده، وأهاج فيه أذكاره، فحمله ذلك عن الطعام، وأغناه عن الأنام، فهذا لا يصلح إلا لقلب صاف من الأكدار، نقيّ نظيف من الآثام، ومن شهد فيه خلقاً فذلك علامة كدر قلبه، ومن أحدث فيه لعباً ولهواً فهو دليل نقص لبه.

حدثني بعض الشيوخ عن شيخ له قال: رأيت أبا العباس الخضر فقلت: ماتقول في هذا السماع الذي يختلف فيه أصحابنا؟ فقال: هو الصفا الزلال لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء، وقد صدق في قوله: لأنّا روينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخوف ما أخاف على أمتي الشهوة الخفية والنغمة الملهية، وأنّ حماد روى عن إبراهيم: الغناء ينبت النفاق في القلب، وعن مجاهد: ومن الناس من يشتري لهو الحدث ليضلّ عن سبيل اللّّه قال: الغناء وهداكما، قالاه: لأنّ سماع الغناء حرام وأجور المغنيات وأثمانهن حرام، والفرق بين الأغاني والقصائد أنّ الأغاني ما شّبب به النساء وذكر فيه الغزل، ووصفن به، وشهدن منه، ودعا إلى الهوى، وشوّق إلى اللهو، فمن سمع من حيث قال القائلون بهذه المعاني فالسماع عليه حرام، والقصائد ماذكر بالله، ودلّ عليه، وشوّق إليه، وأهاج مواجيد الإيمان، وأثار مشاهدات العلوم، وذكر به طرقات الآخرة ومقامات الصادقين، فمَنْ سمع من حيث شهد بهذه الشهادة فهو من أهله إذ له نصيب منه، وقال الله سبحانه: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون، فالكلام روحان، منثور ومنظوم، فالمنثور كلام العلاّمة، والمنظوم كلام الشعراء، فما ذكر به الله ويذكر منه فهو طريق إليه،

<<  <  ج: ص:  >  >>