للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنده فيدل به، ولذلك رآه من نفسه لقصور علم اليقين منه، وهذا أدق معاني التكبر ولا يتخلص منه إلا صحيحو التوحيد، صادقو اليقين مخلصو الصالحين، وأما التكبّر الظاهر الذي هو التطاول والفخر والتظاهر، فذاك جلي وهو من أكثف حجب القلب وأقوى صفات النفس، فلذلك فزع العلماء من دقائقه لما عرفوه، فطلبوا القلّة والذلّة للنفس ليمتهنوها بخفايا التواضع، لينتفي عنهم دقائق الكبر لتخلص لهم الأعمال، والتواضع عند المتواضعين هو حقيقة أن يكون العبد ذليلاً صفة لا متذللاً متعمّداً للذلّة، وأن يكون عند نفسه في نفسه وحيداً حقيراً معتقداً لصغره وحقارته في نفسه، لا متواضعاً متكلفاً، وعلامة ذلك أن لا يغضب إذا عابه ونقصه عائب، ولا يكره أن يذمه ويقذفه بالكبائر ذام، وبيان ذلك في وجده أن لا يجد طعم الذل في ذلة ولا يشهد الضعة في تواضعه، إذ قد صار ذلك له صفة، فمن ذلّ ووجد ذوق ذله فهو متعمل للتواضع، ومن تواضع وشهد تواضعه وضعته فهذا متعذر؛ وهي علامة بقية الأنفة في نفسه لنفسه، ومتى غضب أو كره ذمه من غيره فهو يفرح ويرضى بمدحه، فإذا كانت فيه هذه العلامات فهو محجوب عن جميع ما ذكرناه من المقامات، ومتى ذل نفسه وتواضع عند نفسه فلم يجد لذله ذوقاً ولا لضعته حسّاً فقد صار الذل والتواضع كونه، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجد النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة من نفسه، فصارت الذلة والضعة صفته لا تفارقه، لا زمة له لزوم الزبالة للزبال والكساحة للكساح؛ هما صنعتان لهما كسائر الصنائع، وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما، فهذه ولاية عظيمة له من نفسه، قد ولاه على نفسه وملكه عليها فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب وبعده المكاشفات بسائر العيوب، أول ذلك دخول نور الحكمة في القلب وينبوع الحكم من قلبه، كما روينا أنّ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قال: يابني إسرائيل، أين ينبت الزرع؟ قالوا: في التراب فقال: بحق أقول لكم: لا تنبع الحكمة إلا في قلب مثل التراب، ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبّر العز ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارقه العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه، وممن روينا عنه اختيار الذل وإسقاط المنزلة والقدر عند الناس ومحو جاهه وموضعه من قلوبهم، وأظهر على نفسه ألوان معاني الذم أكثر من أن يحصى، وذكرهم يطول، وذاك أنّ حالهم الصدق فتقتضيهم القيام بحكمها فلا بد من قيامهم بمقتضى حالهم.

حدثني بعض الأشياخ عن أبي الحسن الكريني أستاذ الجنيد، أن رجلاً دعاه ثلاث مرات إلى طعامه ثم يرده، فرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله المنزل في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك، فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد

<<  <  ج: ص:  >  >>