للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإخلاص عند المخلصين خراج الخلق من معاملة الخالق، فإذا لم يدخلوا كيف يخرجون؟ وأول الخلق النفس، فإذا لم يتكدر القلب بها كيف يصفى منها؟ والإخلاص عند المحبين أن لا يعمل عملاً لأجل نفس، ولا دخل عليه مطالعة العرض والتشرف إلى حظ طبع، بل للتعظيم، ولا يشرك محبوباً في حب ذي الجلال والإكرام ولا يعلق قلبه بما يروق نظره من جمال لما ملاه من نهاية الحسن وغاية الجمال، ولا سبيل إلى هذا إلا بعد معرفته، ولا معرفة قبل معاينته إذ ليس الخبر كالمعاينة، ولا معاينة إلا بنور اليقين، ولا حق يقين بوجود هوى نفس، فإذا انكشف الحجاب وهوى الهوى طلعت عين اليقين، فأنوار الصفات من الحسن والجمال والبهاء والكمال، في عين اليقين عيناً بعد عين كنور فوق نور، إلى نور النور، والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال وترك السكون والاستراحة بهم في الأحوال، ومن الإخلاص في الصدق عند الصديقين سؤال الحجبة في قلوب الناس، كما قال بشر وقد سئل: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ فقال: كنت أكاتم الله تعالى حالي: معناه أسأله أن يكتم علي ويخفي أمري، وحدثت أنه رأى الخضر عليه السلام فقال: ادع الله تعالى لي فقال: يسر الله تعالى عليك طاعته، قال، قلت: زدني فقال: وسترها عليك، فقيل في تأويل ذلك معنيان؛ منهم من قال: وسترها عليك أي يسترك حتى لا تعرف بها كما ذكرنا آنفاً.

وقال بعضهم: أراد سترها عنك حتى لا تنظر أنت إليها، وقال بعضهم: قلقني الشوق إلى الخضر، فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه، ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته، فما غلب على قلبي ولا همني إلا أن قلت له: يا أبا العباس، علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر، ولم يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة، فقال: قل: اللهم أسبل عليّ كثيف سترك وحط عليّ سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك واحجبني في قلوب خليقتك، قال ثم غاب فلم أره ولم أشتق إليه بعد ذلك، قال فما تركت أن أقول هذه الكلمات في كل يوم، فحدثت أنّ هذا كان يستذل ويمتهن حتى كان أهل الذمة يسخرون به في الطريق، يحملونه الأشياء في الطريق لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يولعون به، وكانت راحته في ذلك ووجود قلبه به واستقامة حاله عليه، وهذا طريق جماعة من السلف وحال طبقة من صادقي الخلف، أخفوا أنفسهم وأسقطوا منازلهم فسموا عقلاء المجانين، وهذا من الزهد في النفس وحقيقة التواضع، إلا أنه زهد مجانين الأولياء وتواضع موقني الضعفاء؛ فالتكبّر يكون بثلاثة معان: تكبّر على الناس عجباً بالنفس، وتكبّر في قلوب الناس عزّة من النفس، أي يحب أن يكبر في قلوبهم فيكون ذلك تكبّراً منه، وتكبّر في القلب عن نظره إلى صلاحه ودينه فيكبر ذلك

<<  <  ج: ص:  >  >>