القلوب والأفكار، فلم يخيله عقل ولم يصوره فكر، لئلا يملكه الوهم، فيكون مربوباً وهو رب، ولا ينظر إليه بفكر فيكون مقهوراً وهو قاهر، لا يعقل بعقل لأنه عاقل العقل، ولا يدرك بحيطة وهو محيط بكل حيطة، حتى يتجلى آخراً بإحسانه، كما تجلى أولاً بحنانه، فيشهد بحضوره وينظر بنوره وليس هذا لسواه ولا يعرف بهذا إلا إياه.
وهذا منه لأوليائه اليوم بأنوار اليقين في القلوب، وهو لهم منه غداً بمعاينة الأبصار في دار الحبيب أبد الأبد في الجنان، يتجلّى لهم بعظائم القدرة ولطائف الحنان، ويكلمهم بما لا غاية له من لذيذ المعاني، يتجلّى بصفات الجلال ويظهر بمعاني الحسن والجمال، ويبدو بلبس البهاء والكمال يجمع لهم بأول معنى من معانيه بما يوجدهم به من النعيم والسرور والفضل والحبور، بكل نظرة أو كلمة أو قرب أو لطف أو عطف أو حنان أو إحسان جميع ما فرقه من نعيم الجنان، وينظر إذا أحب إلى ما يحب اختياراً لا تهجم الأشياء عليه في نظره اخباراً، ويعرض عما شاء اختياراً لا تعترض المنظورات في نظره اضطراراً يعرض في نظره لكبرياء عزه، وينظر في أعراضه بلطائف عطفه، الملك في قبضته والخزائن في كلمته والكون في مشيئته والملكوت كله بيده، والجبروت والعظمة سبحات صفاته وجود الأشياء لا يضطره إلى النظر إليها إن أراد الإعراض عنها لأنه مقتدر قهار وعدمها لا يضطره إلى أن يراها لسبق علمه بها، لأنها معلوم علمه ذي الأخبار، ولأنه هو الجبار إذ الموجود والمعدوم يضطر غيره إلى النظر لضعفه عن الامتناع، والعدم يضطر سواه إلى الفقد لعجزه عن الاختراع، وهو تعالى مباين لسواه بعزه، غير مماثل لغيره بقهره، ولأن المعدوم كالمحجوب وهو تعالى يرى المحجوب، من الذرة من تحت الثرى من وراء السموات والأرضين، ولا يحجبن نفاذ نظره إليها ولا يمنعن قربه منها، ولا يحجزن قدرته عليها ولا يجاوز دون حيطته بها، إذ الحجب واقعة على الخلق غيرمتصلة بالخالق، وبواطن الأشياء وغوامضها منكشفة للخالق وهو أيضاً يشهد المآل والأواخر إلى نهاية نهاياتها في أبد أبدها، كما يشهد ذلك اليوم أعني من غد وبعد غد، وما وراءه إلى يوم القيامة وما فيها، وهذا كله عدم لم يخلقه بعد، لأن علمه بذلك شهادة له لأنه ليس بينه وبين علمه حجاب، فهو يشهد الكون من أوله إلى آخره من حيث علمه بعلم هو وصفه، ومشاهدة هي نعته، ولأن كلامه بذلك يخبر بأنه قد كان دليلاً على شهوده المآب، لأنه شهد ما علم كما علم ما به تتكلم، فلم يتفاوت كلامه وعلمه ولم يختلف علمه وشهادته، ومع ذلك كله فلا موجود في الأولية ولا المشاهدة سواه، ولا شريك له في القدم ولا يقدم شاهد إلا إياه، قوته كنه قدرته وقدرته دوام بقائه، ونظره سعة علمه وعلمه مدى نظره، يدرك الأشياء كلها على اختلاف أوصافها بصفة من صفاته، ثم يدرك بجميع أوصافه ما أدركه بهذه الصفة، فصح بذلك أنه نظر وعلم وتكلم،