في غيرهما، فأما شهر رمضان فإن الله تعالى خصّه بتنزيل القرآن وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وجعله مكاناً لأداء فرضه الذي افترضه على عباده من الصيام وشرّفه بما أظهر فيه من عمارة بيوته بالقيام.
وقد كان مجاهد يقول: لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان، وقد رفعه إسماعيل بن أبي زياد فجاء به مسنداً وأما ذو الحجة فإنّا لا نعلم شهراً جمع خمس فضائل غيره؛ هو شهر حرام وشهر حج وفيه يوم الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات؛ وهي العشرة، والأيام المعدودات: وهي أيام الشريق التي أمر الله تعالى بذكره فيها، وأفضل أيام في شهر رمضان العشر الأواخر، وأفضل أيام في شهر الحجة العشر الأُوَل، وقد استحب بعض أهل الورع أنّ يقدم في كل سنة بشهر لئلا يكون مؤخراً عن رأس الحول، لأنه إذا أخرج في شهر معلوم ثم أخرج القابل في مثله، فإن ذلك الشهر يكون الثالث عشر؛ وهذا تأخير، فقالوا: إنه إذا أخرج في رجب فليخرج من القابل في جمادى الآخرة ليكون آخر سنته بلا زيادة، وإذا أخرج في رمضان فليخرج من قابل في شعبان على هذا لئلا يزيد على السنة شيئاً؛ وهذا أحسن، وليتق أن يكون مخرجاً للفرض في كل شهر، ثم أن يخرجها طيبة بها نفسه، مسروراً بها قلبه، مخلصاً لربه، مبتغياً بها وجهه لغير رياء ولا سمعة ولا تزيّن ولا تصنّع، لا يحبّ أن يطلع عليها غير الله عزّ وجلّ، ولا يرجو في إعطائها ولا يخاف في منعها سواه، وليكن ناظراً إلى الله تعالى، عارفاً بحسن توفيقه له، وأن يعتقد فضل من يعطيه من الفقراء عليه ولا ينتقصه بقلبه ولا يزدريه، وليعلم أنّ الفقير خير منه، لأنه جعل طهرة وزكاة ورفعة ودرجة في دار المقام والحياة، وأنه هو قد جعل سخرة للفقير وعمارة لدنياه، كما حدثنا بعض العارفين قال: أريد مني ترك التكسب وكنت ذا صنعة جليلة، فجال في نفسي من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف: لا أراه تنقطع إلينا وتتهمنا فيك علينا، أن نخدمك وليّاً من أوليائنا، أو نسخّرلك منافقاً من أعدائنا، وأن يسرّ ذلك إلى الفقير سرّاً ولا يذكر ذلك، فقد جاء في تفسير قوله تعالى:(لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأَذَى) البقرة: ٢٦٤، قال: المنّ أن تذكرها، والأذى أن تظهرها، وحدثت عن بشر بن الحارث قال: قال سفيان: من منّ فسدت صدقته، قيل: كيف المنّ يا أبا نصر؟ قال: أن تذكره أو تحدث به، وبعضهم يقول: المنّ هو أن تستخدمه بالعطاء، والأذى أن تعيّره بالفقر وقيل: المنّ أن يتكبر عليه لأجل أن يعطيه، والأذى أن تنهره أو توبخه بالمسألة، وفي الحديث: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ، وقال بعض العلماء: ثلاثة من كنوز البرّ منها: إخفاء الصدقة، وقد روينا مسنداً من طريق؛ وذلك أسلم لدينه وأقلّ لآفاته وأزكى لعمله.