وقد روينا في الخبر: لا يقبل الله من مسمع ولا مراءٍ ولا منّان، فجمع بين المنّة والسمعة، كما جمع بين السمعة والرياء وردّ بهن الأعمال؛ فالمسمع الذي يتحدث بما صنعه من الأعمال ليسمعه من لم يكن رآه، فيقوم ذلك مقام الرؤية، فسوّى بينهما في إبطال العمل لأنهما عن ضعف اليقين، إذ لم يكتف المسمع بعلم مولاه، كما لم يقنع المرائي بنظره فأشرك فيه سواء وألحق المنّان بهما لأن في المنة معناهما من أنه ذكره فقد سمع غيره به، أو رأى نفسه في العطاء ففخر به وأدّاه سرّاً، فإن أظهره نقل من السرّ وكتب في العلانية، فإن تحدث به محي من السرّ والعلانية فكتب رياء، فلو لم يكن في إظهار الصدقة مع الإخلاص بها إلاّ فوت ثواب السرّ لكان فيه نقص عظيم، فقد جاء في الأثر: تفضّل صدقة السرّ على صدقة العلانية سبعين ضعفاً، وفي الحديث المشهور: سبعة في ظل عرش الله تعالى يوم القيامة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: أحدهم رجل تصدّق بصدقة فلم تعلم شماله ما أعطت يمينه، وفي لفظ آخر: فأخفى عن شماله ما تصدّقت به يمينه؛ وهذا من المبالغة في الوصف وفيه مجاوزة الحدّ في الإخفاء، أي يخفي من نفسه فكيف غيره؟ وقد تستعمل العرب المبالغة في الشيء على ضرب المثل والتعجّب وإن كان فيه مجاوزة للحدّ، من ذلك أنّ الله عزّ وجلّ ذّم قوماً ووصفهم بالبخل وبالغ في وصفهم فقال تعالى:(أَمْ لَهَمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) النساء: ٥٣، والنقير لا يريده أحد ولا يطلبه ولا يعطاه، لأنه هو النقطة التي تكون على ظهر النواة، منه منبت النخلة وفيه معنى أشدّ من هذا وأغمض أنه لما قال: فأخفى عن شماله، كان لهذا القول حقيقة في الخفاء فهو أن لا يحدّث نفسه بذلك ولا يخطر على قلبه، وليس يكون هذا إلاّ أن لا يرى نفسه في العطاء أصلاً ولا يجري وهم ذلك على قلبه، كما يقول في سرّ الملكوت: إنّ الله تعالى لا يطلع عليه إلاّ من لا يحدّث نفسه به، بمعنى أنه لا يخطر على قلبه، ولا يذكره، ولا يشهد نفسه فيه شغلاً عنه بما اقتطع به، وبأنه لا يباليه؛ فعندها صلح أن يظهر على السرّ، فإن لم يمكنك على الحقيقة أن تخفي صدقتك عن نفسك فاخف نفسك فيها، حتى لا يعلم المعطى أنك أنت المعطي؛ وهذا مقام في الإخلاص، فإن أظهرت يدك في الإعطاء فاخفها سرّاً إلى المعطي؛ هذا حال الصادق، فقد كان بعض المخلصين يلقي الدرهم بين يدي الفقير، أو في طريقه، أو موضع جلوسه، بحيث يراه وهو لا يعلم من