فرأيت ذات لية فقيراً يطوف بالكعبة في طلمة الليل، حسن الهدى والسمت، قال: فكنت أتتبع آثار قدمه وأمشي خلفه من حيث لا يشعر، فلما قضى أسبوعه وقف في الملتزم بين الباب والحجر، فسمعته يدعو دعاء خفياً، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول: جائع كما ترى، عريان كما ترى، فما نرى فيما ترى يا من يرى ولا يرى، قال: فنظرت فإذا عليه خلقان رثاث، لا تكاد أن تواريه فقلت في نفسي: لا أجد لتلك الدراهم موضعاً خير من هذا، قال: فتبعته حتى انصرف إلى ناحية قبة زمزم يصلّي ركعتي الطواف، وذهبت إلى منزلي فجئت بالدراهم فدفعتها إليه وقلت: رحمك الله أنت في مثل هذا الموضع، وعلى مثل هذه الحالة، فخذ هذه تنفقها، قال: وصببتها في طرف إزاره بين يديه على الأرض، فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم فقال: أربعة ثمن مئزرين ودرهم أتفوّت به ثلاثاً، ثم قال: لاحاجة لي بسائرها، قال: فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان قد لبسهما، قال: فهجس في نفسي من أمره شيء، فقبض على يدي فأطافني معه أسبوعاً كل شوط منها في جوهر من معادن الأرض تتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين، منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر، لم يظهر للناس، فقال: هذا كله قد أعطيناه فزهدنا فيه، ونأخذ من أيدي الخلق أحبّ إلينا لأنه أحبّ إلى الله، وأخف علينا في المطالبة؛ وهذه أثقال وفتنة، وذاك للعباد فيه رحمة ونعمة، وروينا في خبر: البلاد بلاد الله والخلق عباده، فأينما وجدت رزقاً فأقم واحمد الله.
وروينا عن ابن عباس: اختلف الناس في كل شيء إلاّ في الرزق والأجل، أجمعوا على أنّ لا رازق إلاّ الله ولا مميت إلاّ الله، وقال: إنّ الله عزّ وجلّ لما خلق الأرزاق أمر الرياح أن تمزقها في أقطار الأرض ففرقها، فمن الناس من وقع رزقه في مائة ألف موضع، ومنهم من وقع رزقه في عشرة آلاف موضع، ومنهم من ألف موضع، ومنهم من مائة موضع، ومنهم في موضع وأقل وأكثر، ومنهم من وقع رزقه على باب منزله يغدو ويروم إليه، وكل عبد يسعى بأثره الذي كتب له حتى يستوفي رزقه الذي قسم له، فإذا فني أثره واستوفى رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه، واعلم أنّ العبد لا ينقطع رزقه أبداً منذ أظهرت خلقته كان في بطن أمه، غذاؤه مما تفيض الأرحام من دم الحيض، يعيش بذلك جسمه من ظاهره، ومعاه المستطيل من سرّته متصل بمعي أمه، يصل من بطنها مخ الطعام إلى بطنه، فيعيش بذلك؛ فإذا أذن الله عزّ وجلّ بخروجه بعث إليه الملك، فقطع ذلك المعي من موضع اتصاله بمعي أمه؛ فإذا دخل إلى الدنيا جعل رزقه من الدنيا؛ فإذا خرج منها فآخر رزقه من الدنيا أول رزقه من الآخرة؛ فإذا دخل في الآخرة كان رزقه من البرزخ كما كان في الدنيا بتلك المعاني لمعاينته المختلفة المحتملة؛ لذلك فإذا خرج من البرزخ ودخل في القيامة كان رزقه في الموقف على قدر حاله هناك؛ فإذا خرج من الموقف دخل أحد الدارين انتقل رزقه إليها فكان منها