إلى أبد الأبد؛ فإذا شهد العبد هذا بيقين إيمانه اطمأن قلبه فاستوى عنده الرزق والأجل فعلم يقيناً أنّ لا بدّ من رزق كما لابدّ من أجل، فلم يكن عليه إلاّ مراعاة الأحكام فيه، وشهد من هذه الشهادة أنّ خلقاً لا يقدر أن يزيد في عمره ساعة ولا ينقص منه ساعة؛ فإذا أيقن بهذا كان مشغولاً بالمخالصة لمولاه فيما تعبده به وولاه، ثم أنّ الرزق على وجهين؛ عن معان لا تحصى وبأسباب لا تعدّ ولا تضبط، فمن الرزق ما يأتي العبد بسكونه وقعوده فيكون الرزق هو الذي تحرك إليه ويأتيه، ومنه ما يأتي العبد بحركته وقيامه فيكون يتسبب إليه ويطلبه، والرزق فيهما واحد والرازق بهما واحد، الحكمة والقدرة في المتحرّك القائم وفي الساكن القاعد واحد، إلاّ إنّ الأحكام فيهما متفاوتة، ثم إنّ الأشياء كلها على ضربين: مسخّر لك ومسلّط عليك، فما سخر لك سلطت عليه وهو نعمة عليك وعليك الشكر عليه؛ وهذا مقام الشكر على معنى الرزق، وما سلط عليك فقد سخرت له أنت وهو بلاء عليك وعليك الصبر فيه؛ وهذا مقام الصبر عن معنى الابتلاء، فمن شهد ما ذكرناه عرف حاله من مقامه فقام بحكم ما عرف، ومن لم يشهده جهل حاله ولم يدر مقامه فاضطرب فيه فضيّع حكم الله عليه والمستحبّ لمن لا معلوم له أن لا يأخذ مما آتاه إلاّ قدر الحاجة، وعلامة حاجته هو أن لا يأخذ إلاّ ما يحتاج أن يشتريه فهو حاجته في وقته؛ فذاك رزق من الله تعالى ومعونة له، فأخذ هذا أفضل وما آتاه مما لا يحتاج أن يشتريه أو عنده مثله فهو اختبار له وابتلاء لينظر كيف زهده في فضول حاجته، وكيف رغبته في الاستكثار، لأنه إذا ملك الشيء فكأنه قد كان له فيعلم الآن بمعرفته أنّ هذا ابتلاء من الله، وفيه حكمان؛ أحدهما أن يأخذه في العلانية ويخرجه في السرّ إلى من هو أحوج إليه منه؛ هذا طريق الأقوياء، ومن أشد الأشياء على النفس وهو الذي أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر وغيره؛ وهذا حال علماء الزاهدين، والحكم الآخر أن لا يأخذه ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج إليه منه لأن الله تعالى له عليه فيه أحكام؛ وهذا هو الطريق الأوسط من طرق الزهاد، فإما أن يأخذه من غير حاجة ليتكثر به ويدّخره فلا أعلم في هذا طريقاً إلى الله تعالى، وما لم يكن طريقاً إلى الله فهو من طرقات الهوى إلى العدوّ، ثم ينظر الآخذ فيما آتاه من الله إلى أحكامه فيه، فإن كان ما يأتيه من الزكاة المفروضة على أربابها المشترط له الأوصاف الستة المنصوص عليها في الكتاب؛ فذلك أضيق عليه وألزم له في الاحتياط لأخيه أن يضعه في حقيقة موضعه عند أخيه نصحاً لله تعالى في دينه ونصحاً لإخوانه في ربه فإنّ الأفضل في ذلك أن لا يضعه إلاّ في أربعة أشياء: مطعم، وملبس، ومسكن، ودين في قضائه عنه؛ فهذا من أفضل ما صرفت فيه الواجبات.
وقد روينا عن ابن عباس: من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه، وفضول