للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدنيا وهو الزيادة على الكفاية لا يحتاج إليه، والدين يحتاج إليه، فلا ينبغي للعاقل أن يبيع ما يحتاج إليه من دينه بشراء ما لا يحتاج إليه من دنياه، فتكون صفقته خاسرة وتجارته بائرة، والشهوات لا حدّ لها لأنه لا غاية ينتهي إليها فيها، والقوت له حدّ وغاية ينتهي إليه فيها، وقد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا حقّ لابن آدم إلاّ في ثلاث؛ طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يكنّه، فما زاد فهو حساب؛ وهذه الثلاث مع ابن آدم في بطن أمه، وفي قبره، وبين ذلك في دنياه، وبعد ذلك في عقباه، فالأخذ لمصالح هذه الثلاث مأجور عليه العبد والردّ لما زاد عليها هو أفضل من الأخذ، وينبغي أن يكون العبد الذي لا معلوم له عارفاً بأحكام العطاء؛ فإن العطاء من الله لعبده على أربعة أنواع: نوعان محمودان، ونوعان مكروهان، فالمحمودان ما كان بمعنى الرفق والمعونة، والمكروهان ما يكون بمعنى الاختبار والابتلاء، وبين الرفق والمعونة فتفصيل ذلك أنّ الابتلاء ما جاءه من الأسباب قبل الحاجة إليه أو جاءه وله غنية عنه أو عنده مثله؛ فهذا ابتلاء من الله تعالى له لينظر عمله فيه، فالأفضل في هذا أن يخرجه فيكون معاملاً لله تعالى به في السرّ مسقطاً لمنزلته عند الناس في العلانية، فإن لم يقوَ على هذا الثقل وحمله على النفس فالأفضل بعده أن لا يأخذه ليحكم الله فيه ما يشاء ونصحاً لأخيه في ما له - سيما إن كان من الواجب والاختيار - أن يكون الفقير قد نوى ترك أكل شيء أو اعتقد التقلّل في شيء قربه إلى ربّه تعالى لمخالفة هوى نفسه وعملاً في صلاح قلبه يتباعد به مما يدخله في الكثرة ويحلّ عليه عقده، فردّ هذا أفضل وهو من الزهد والرعاية للعهد، فإن أخذه ثم أخرجه إلى محتاج؛ فهذا هو زهد الزهد، وله في هذا معاملات؛ منها أنّ العبد مندوب إلى الإيثار، فإذا كان فقيراً وملك شيئاً فأخرجه كان في ميزانه، ومنها موافقة السنّة في أنه قد أمر بأخذه أو دفعه إلى من هو أحوج إليه منه، ومنها إنّ أخذ هذا في العلانية من الناس وردّه في السرّ إلى الله تعالى كبيرة على النفوس إلاّ على الخاشعين لأنّ النفس تسقط في منزلتها، ثم لا ينال به سعتها فلا يصبر على هذا إلاّ الموقنون؛ وهذا مقام الزاهدين في النفس؛ وهو حال أغنياء الفقراء، وعلماء الزهاد، وهم أهل الطبقة العليا الذين قدمنا ذكرهم: والوجهان الآخران من العطاء هو الرفق وصورته أن يأتيه الرزق عند حاجته أو مع شهوته للشيء الذي لا يقدر عليه، فيعلم الله ذلك منه فيبعث به إليه من غير طمع في خلق، أو يأتيه ما يصلح أن يشتريه ليرتفق بمنافعه، فهذا النوع من العطاء رفق الله سبحانه، الأفضل للعبد أن يأخذه وربما خيف من ردّ مثل هذا عقوبة من زوال عقل أو رد إلى غلبة طبع أو ابتلاء بطمع خلق أو دخول في دنيء من مكسب.

<<  <  ج: ص:  >  >>