العمل عمل يحتاج إلى عمل، ولم تكن سيرة الفقراء الصالحين أن يأخذوا من كل أحد، ولا في كل وقت، ولا يأخذون كلما يعطون مما زاد على كفايتهم إلاّ أنْ يكونوا ممن يخرجه إلى غيرهم، وإنما كانوا يقبلون ممن يخف على قلوبهم القبول منه وممن يرتفع الوحشة والحشمة فيما بينهم وبينه؛ لأنّ ذلك هو الذي يفرح بقولك ويرى نعمة الله تعالى عليه في أخذك ومن يثقل على قلبك معروفه فهو الذي يثقل على قلبه إخراج ما في يده ولا يغتم بردك عليه.
وقال بعض العارفين ما تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ فاحتشم أحدهما من صاحبه أو استوحش منه إلاّ من علّة في أحدهما، فلا يستحبّ للفقير أن يأخذ إلاّ من صديق، ولا يقبل إلاّ ممن يحبّ لأن لأهل المعرفة بالله عزّ وجلّ أن يحكموا في الأسباب بما أراهم الله تعالى من الردّ أو من القبول، فإن اعتلّ معتلّ بما رويناه آنفاً من جاءه شيء من غير مسألة فردّه فإنما يردّه على الله تعالى، وبأن أهل المعرفة يشهدون أن العطاء من الله سبحانه وتعالى فلا يصلح أن يردوا عليه، قيل له: إنّ من يشهد العطاء من الله تعالى هو الذي يشهد الردّ أيضاً منه، فإن يردّ إليه له أو ردّ إليه به لمعرفته باختباره وابتلاء حسن الردّ منه وشكر الفعل له، فهو أيضاً إذا شهد تصريف الخلق بالعطاء فعل الله عزّ وجلّ، كان يشهد فعل نفسه بالردّ، فعل الله تبارك وتعالى بالمنح؛ فالحالان سواء عند من علم الأحكام، ولم يتّبع الهوى، وقام بحكم ما منه يقتضي، فليس في هذا حجة إلاّ لعالم مستكثر، أو لعابد جاهل غير مستبصر، على أنّ في القبول من بعض الناس دون بعض، وفي ردّ بعض الهدية سنّة، أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمن وإقط وكبش فقبل السمن والإقط وردّ الكبش، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل من بعض الناس ويردّ على بعض، وقال: لقد هممت مراراً أن لا أتهب إلاّ من قرشي أو ثقفي أو دوسي وفعل هذا جماعة من التابعين.
جاءت صرّة إلى فتح الموصلي فيها خمسون درهماً فقال: حدثنا عطاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أتاه رزق من غير مسألة فردّه، فإنما يردّه على الله عزّ وجلّ، ثم فتح الصرّة فأخذ منها درهماً وردّ سائرها، وقد كان الحسن البصري يروي هذا الحديث أيضاً، ثم حدثنا عنه أنّ رجلاً أهدى إليه كيساً فيه مال ورزمة فيها من دق خراسان، فردّ ذلك، فقال له بعض أصحابه في ذلك فقال: من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة، وليس له عند الله عزّ وجلّ خلاق، وقد كان الحسن يقبل من أصحابه، وكان إبراهيم التيمي يسأل أصحابه الدرهم ونحوه، ويعرض عليه غيرهم المائتين فلا يأخذ، وقد كان بشر بن الحارث لا يقبل من الناس شيئاً، وكان بعضهم يقول: