أحبّ أن أعلم من أين يأكل؟ فقال له: من يخبر أمره؟ أنا أدري من أين يأكل، له صديق عاقل يعني نظيره في العقل والدين، لأنّ بعضهم كان لا يقبل إلاّ من نظرائه، لا من الأتباع، وهذا الصديق العاقل الذي كان يقوم بكفايته، ولم يكن يظهر أمره، ولا يلتقي معه؛ هو سري بن المغلس السقطي، لأنّا حدثنا عن بشر أنه قال: ما سألت أحد قط شيئاً من الدنيا إلاّ سريّاً السقطي، لأنه قد صحّ عندي زهده في الدنيا، فهو يفرح بخروج الشيء من يده، ويتبرم ببقائه عنده، فأكون أعينه على ما يحبّ.
وقد كان سري يوجه إلى أحمد بن حنبل في حاجاته فيقبل منه، وكان إذا ذكر عند أحمد يقول: ذاك الغني المعروف بطيب الغنى أنه ليعجبني أمره، وكان بعض العباد إذا دفع إليه بعض أبناء الدنيا الشيء يقول: دعه عندك، وأعرض على قلبك كيف أنا عندك بعد الأخذ أفضل أو دون ذلك وأصدقني، فإن قال له: أنت عندي الآن أفضل منك قبل ذلك قبل، وإن أخبره بنقصانه في قلبه لم يقبل منه، وكان بعضهم يردّ على أكثر الناس صلته فعوتب في ذلك فقال: ماأردّ إلاّ إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم، يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم، وممن ذهب إلى هذا سفيان الثوري، وقد كان يشترط على بعض من يأخذ منه أن لا يذكره إشفاقاً عليه من ذهاب أجره، لأنه قيل في معنى قوله عزّ وجلّ:(لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى) البقرة: ٢٦٤ قال: المنّ أن يذكره والأذى أن يظهره، وقال الجنيد للخراساني الذي جاءه بمال وسأله أن يأكله فقال الجنيد: بل أفرقه على الفقراء، فقال: أنا أعلم بالفقراء منك ولم أختر هذا، فقال الجنيد: أنا أؤمل أن أعيش حتى آكل هذا، فقال: إني لم أقل لك أنفقه في الخل والكامخ والبقل، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوة فكل ما نفد أسرع كان أحب إلي فقال الجنيد مثلك لا يحل أنْ يرد عليه، فقبله، فقال الرجل: ما ببغداد أحد أعطم منة عليّ منك، فقال الجنيد: وما ينبغي لأحد أن يقبل منه إلاّ من كان مثلك؛ فهذه كانت طرائق أهل الحقائق، ولا ينبغي للقاعد عن المكاسب إلاّ أن يكون تاركاً ذلك لأجل الله سبحانه، عالماً في قعوده بأحكام الله عزّ وجلّ، قائماً بعلم حاله، فيحسن يومئذ قعوده عن الأسباب ثقة منه بالمسبّب الوهاب، ويحلّ تركه للمعلوم يقيناً منه بالعالم.
وقد كان بعض العلماء يقول: لا تأكل إلاّ عند من يعلم أنك أكلت رزقك، ولا تشكر عليه إلاّ ربك، ودعا بعض الناس شقيقاً البلخي وكان في طبقة من أصحابه نحو الخمسين رجلاً، فوضع الرجل طعاماً واسعاً وأنفق نفقة كثيرة، فلما قعدوا قال لهم شقيق: إنّ هذا الرجل يقول: من لم يرني صنعت هذا الطعام وأنا أقدمه إليه فطعامي عليه حرام، قال: فقاموا كلهم خرجوا إلاّ شاباً كان فيهم نقصت مشاهدته عنهم، فقال صاحب