إخْوَانِي من الْأَنْصَار كَانَ يشغلهم الْقيام على نَخْلهمْ، وَكنت أمرا مِسْكينا أصحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ملْء بَطْني. وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: ألهاني الصفق بالأسواق فِي حَدِيث اسْتِئْذَان أبي مُوسَى.
فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة، وَيحكم بالحكم، وَيَأْمُر بالشَّيْء، وَيفْعل الشَّيْء، فيحفظه من حَضَره، ويغيب عَمَّن غَابَ عَنهُ.
فَلَمَّا مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام وَولي أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ إِذا جَاءَت الْقَضِيَّة لَيْسَ عِنْده فِيهَا نصٌّ سَأَلَ من بِحَضْرَتِهِ من الصَّحَابَة فِيهَا، فَإِن وجد عِنْدهم نصا رَجَعَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا اجْتهد فِي الحكم فِيهَا. وَوجه اجْتِهَاده غَيره مِنْهُم رضوَان الله عَلَيْهِم رجوعٌ وَإِلَى نصٍّ عَام، أَو إِلَى أصل إِبَاحَة مُتَقَدّمَة، أَو إِلَى نوع من هَذَا يرجع إِلَى أصل. وَلَا يجوز أَن يظنّ أحدٌ أَن اجْتِهَاد أحدٍ مِنْهُم هُوَ أَن يشرع شَرِيعَة باجتهادٍ مَا، أَو يخترع حكما لَا أصل لَهُ - حاشاً لَهُم من ذَلِك.
فَلَمَّا ولي عمر رَضِي الله عَنهُ فتحت الْأَمْصَار، وتفرق الصَّحَابَة فِي الأقطار، فَكَانَت الْحُكُومَة تنزل بِمَكَّة أَو بغَيْرهَا من الْبِلَاد، فَإِن كَانَ عِنْد الصَّحَابَة الْحَاضِرين لَهَا نصٌّ حكم بِهِ، وَإِلَّا اجتهدوا فِي ذَلِك. وَقد يكون فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة نصٌّ مَوْجُود عَن صَاحب آخر فِي بلد آخر، وَقد حضر الْمدنِي مَا لم يحضر الْمصْرِيّ، وَحضر الْمصْرِيّ مَا لم يحضر الشَّامي وَحضر الشَّامي مَا لم يحضر الْبَصْرِيّ، وَحضر الْبَصْرِيّ مَا لم يحضر الْكُوفِي، وَحضر الْكُوفِي مَا لم يحضر الْمدنِي. كل هَذَا مَوْجُود فِي الْآثَار، وتقتضيه الْحَالة الَّتِي ذكرنَا من مغيب بَعضهم عَن مَجْلِسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الْأَوْقَات وَحُضُور غَيره، ثمَّ مغيب الَّذِي حضر وَحُضُور الَّذِي غَابَ، فيدري كل وَاحِد مِنْهُم مَا حَضَره، ويفوته مَا غَابَ عَنهُ. هَذَا أمرٌ مشَاهد.