وصارت إلى العبد القلعة إرثاً عن أبيه، والبرجُ إرثاً من سميه. وهطل عليهم سحاب بركة الديوان العزيز بوسميه ووليّه. واجتمع شمل المساجد الثلاثة بما منح الله من التأييد. فاغترق شمل تثليث الشرك باجتماع ثلاثة التوحيد. وعطف الله على حزب الإيمان بالنصر. وعاد على حزب الطغيان بالكسر.. وأضحى الباطلُ وقد عاوده ذله. ورد الله الحق إلى نصابه وإليه يرجع الأمر كلّه.
والعبد يظن أن الله تعالى ما أعاد هذا البيت إلى العدوّ بعد فتوحه. ولا نقله عن الهداة من أُمة محمد إلى الغواة من عبده مسيحة. إلاّ ليسطر فتحه في سيرة مولانا أمير المؤمنين، كما سطره في سيرة أمير المؤمنين جده. ويجري على يد العبد وذويه فيكون قد جرى على يد عبد الديوان ويد جُنده.
وكلما يجدد الله للعبد من قصر عزيز. وظفر وجيز. فهو بعناية إمامه الذي يستخرج له التوفيق من وعائه. ويُمد في القرب بجيوش عساكرِه وفي البعد بجيوش دُعائه.
وقد سير العبد عبد الديوان " سرخاب " رسوله ليتلوا " سورة الفتح " من حفظه. ويشرح صورة الأمر من لفظه. فإنه كان للفتوح حاضراً. ولقتال العدو مُباشراً.
والعبد متردد بين أن يجعل عين هذه القلعة بالهدم أثراً. وعيانها بالردم خبرا. ليخمد سرر شرها. ويؤمن غائلة أمرها. وينقطع رجاء الكافر من نزلها وحصرها وبين أن يبقيها معقلا لهذا البيت الشريف. وموئلاً للمجاورين فيه من طائفة الدين الحنيف.
وأما برج داود فقد تقدم عزم العبد على أن يغض من طرفه. ويجدع من أنفه. ويقلل من ارتفاعه. ويُسهل من امتناعه. ويجعله مسجدا للركوع والسجود. لا معقلا للجموع والحشود. ومعبداً يُلتزم بمزاره. لا حْصناً يعتصم بأَسْوَارِهِ.
وهو يسترشد في ذلك هدي الديوان العزيز الذي عليه معتمده. وإليه مرجعه فيما يصدروه ويورده. والله تعالى يجعل حزب الديوان وعبيده حزب الله الغالب. وحزب عدوه وعدو دينه حزب الشيطان الهارب ويقضي له ولمن اعتلق به ببلوغ المطالب والمآرب.
رجعنا ولم يزل القدس في يد الملك الناصر داود إلى أن اتفق مع الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص على مصالحة الفرنج ليعينوهم على قتال الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر وأعطوهم صفد والشقيف والقدس وغيرها، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فدخل الفرنج القدس، ورفعوا الصليب على الصخرة وأخرجوا من فيه من المجاورين إلى الخليل، واستمر في ايدي الفرنج، إلى ان جاءت الخوارزمية إلى الشام، في سنة إحدى وأربعين باتفاق مع الملك الصالح نجم الدين.
وهجموا القدس وقتلوا من فيه من الفرنج، وطهروا الصخرة من أوضارهم، وذلك في سنة اثنين وأربعين.
ثم خرج إليهم من مصر عسكر مقدمه الأمير ركن الدين بيبرس الكنجي فقاتلوا الملك الصالح والملك المنصور، والفرنج على غرة فكسروهم وتبعوهم. وولي في القدس من قبل الملك الصالح، وأقطع بلاده الخوارزميه.
وما برحوا في تلك البلاد يدينون بالعيث والفساد، إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب على القصب، من أعمال حمص، سنة أربع وأربعين وستمائة.
وبقيت منهم شرذمة رجعت إلى القدس، وتغلبوا عليه فخرج عليهم عسكر من مصر مقدمة فخر الدين بن الشيخ، فأتى على بقيتهم، واستعاد القدس، وبقي في يد نوابة إلى أن انزل الملك الناصر إليه من الكرك، واستولى عليه في بقية سنة أربع وأربعين.
ثم استعاد الملك الصالح سنة خمس وأربعين، ولم يزل في يده إلى أن مات، وولي بعده ولده الملك المعظم توران شاه، ثم قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين.
وملك الملك الناصر حلب، دمشق والأردن وفلسطين، فلم يزل القدس في يده إلى أن صالح الملك المعز عز الدين أيبك صاحب مصر، فنزل له عنه، وذلك في سنة إحدى وخمسين.
وبقي في يده إلى قتل الفارس أقطاي التركي في شعبان سنة اثنين وخمسين، وخرج من مصر مماليك السلطان الملك الصالح البحرية إلى الملك الناصر يستنصرونه، فسير عسكراً إلى القدس فاستعاده.
ولم يزل في يده إلى أن خرج من دمشق فاراً من التتر في سنة ثمان وخمسين.
فلما استولى التتر على البلاد دخلوه وقتلوا به نويسا وبقي في أيديهم إلى أن كسرهم المظفر على " عين جالوت " ثم قتل.