فلما بلغ بغدوين اتفاقُ عزّ الملك وظهير الدّين بادر إليها، ونزل عليها في الخامس والعشرين من جُمادي الأول سنة خمس وخمسمائة. وقطع شجرها ونخلها، وبنى بيوتاً للإقامة عليها، وقاتلها دفعات لم يقض في واحدة منها وطراً.
فلما بلغ ظهير الدّين نزول بغدوين على " صُور " خرجَ من دمشق، وشن الغارات في البلاد التي في يد الفرنج، فقتل وأسر وأحرق. وعمل الفرنج على " صُور " برجين وزحفوا بهما عليها؛ طول الصغير منهما نيف وأربعون ذراعاً، والكبير أكثر من خمسين. فخرج أهل صور بالنفط والحطب، وألقوه قريبا من البُرج الصغير لعدم تمكنهم من إيصال ذلك إليه. فهبت ريح، فألقت النار على البُرجفأحرقته، واشتدَّ بينهما القتال، وعجز الفرنج عنها فرحلوا ورحل طغتكين إلى دمشق.
ثم عاد عزم بغدوين على منازلة صور في سنة ست، فبلغ ذلك عزّ الملك فأجمع وأهل البلد على مكاتبة طغتكين بتسليمها إليه، وأرسلوا إلى الأمير سيف الدين مسعود متولّي بانياس من قبل ظهير الدّين، وسألوه أن يتحدث لهم مع ظهير الدّين في نصرتهم وتسلم البلد منهم، فوصل مسعود إلى دمشق، ولم يكن بها ظهير الدّين، فتحدَّث مع ولده تاج الملوك بوري في انتهاز الفرصة في تسلم صور.
وكتب إلى أبيه - وكان بحماة - في ذلك فولى مسعوداً صور، وأقطع بانياس تاج الملوك ولده، وسيرّ جماعةً وافرة من الأتراك. فتوجه بهم مسعود إلى صور تقوية لها، وطّيب نفوس أهلها، وأجروا على الرسم في السكة والخطبة للآمر بأحكام الله.
وكتب ظهير الدين إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر، يُعلمه: " أن بغدوين قد جمع، وحشد للنزول على صُور، وأن أهلها استنجدوا بي عليه، والتمسوا مني نصرتهم، فلم يمكنّي إلا متابعتهم ومطاوعتهم، حماية للدين، ورعاية المسلمين. ومتى وصل اليها من جهتكم من ينصرها، ويذب عنها، سلمتها إليه، وأخرجت نُوَّابي عنها ".
فوصل إليها من مصر فيه غلة ورجال وسلاح، ورسولٌ يشكر للأتابك فعله وهو بدر بن أبي الطيب الدمشقي الذي كان بأطرابلس والياً، فزال طمع الفرنج عنها، وطالبوا الموادعة من أتابك، فوادعهم، واستقرت في يد مسعود إلى سنة ست عشرة.
وفيها وصل من مصر أسطول مشحون بالرجال والغلات، فلما عزموا على الرجوع، خرج " مسعود " لتوديعهم فقبظوا، عليه، وحملوه إلى مصر.
وكان سبب القبض: أن عزّ الملك تتابعت كتبه بما يعتمد " مسعود " مع الرعية من الأضرار بهم والمخالفة للعادة الموافقة لهم. ولما وصل إلى مصر أكرم.
فلما بلغ الفرنج رجوعها طمعوا فيها، فأخذوا في التأهب لقصدها. فكتب من فيها إلى " الآمر " فخرج أمره بردّ ولايتها إلى ظهير الدين طغتكين، وكتب له منشور بالولاية، فندب إليها ظهير الدين قوماً لا كفاية لهم، فازداد طمع الفرنج فيها، فنازلوها في شهر ربيع الأول سنة ثماني عشرة، وضايقوها الى أن قلَّت الأقواتُ بها.
وخرج ظهيرُ الدين من دمشق بعسكره إلى " بانياس "، وكتب إلى مصر يسأل من أميرها معونة بمراكب في البحر، فلم يُحبه إلى ذلك. فلما علم ظهيرُ الدين عجزه عن دفع الفرنج عنها، ووقع في نفسه اليأس منها، راسل الفرنج بالترغيب والترهيب إلى أن استقر الحال بينه وبينهم أن يسلمها لهم بحيث يؤمن جميع من فيها؛ ويخرج من أراد الخروج من العسكرية والرعية بما يقدرون عليه من أموالهم ويقيم من أراد الإقامة.
ووقف ظهيرُ في عسكره بإزاء الفرنج، وأذن للناس في الخروج، فحمل كل منهم ما أطاق حمله من ماله وأثاثه، ولم يتعرض لأحد منهم بأذى. ولم يبقى بها إلا من عجز عن الخروج. وتسلمها الفرنج في اليوم الثالث والعشرين من جُمادى الأولى من السنة.
وبقيت في أيديهم إلى أن قصدها الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ونزل عليها في ثاني عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وقاتلها، وضايقها برَّا وبحرّا، إلى أن هجم عليه الشتاء وتراكمت الأمطار، وترادفت بعوثها من سائر الأقطار، فرحل عنها على نية العود إليها.
ودامتْ في أيديهم إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. فالله تعالى يؤيد الملة الإسلامية بنصر من عنده وينزل الكفار من صياصيهم. ويمكن أيدي فتكاكتها من نواصيهم ويستأصل بسيوف عزماتها شأفةّ أديانهم وأقاصيهم.
[عكا]
ويقال فيها عكة أيضا طولها: سبع وستون درجة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وخمس وعشرون دقيقة.