وكان ناصر الدولة قد تغيرات أحواله، فقبض عليه ولده أبو تغلب باتفاق من إخوته أولاد ناصر الدولة وسير من الموصل إلى قلعة أردمشت.
ثم إن أبا تغلب الغضنفر خرج من الموصل بعد زواجه بابنة عمه سيف الدولة، ووصل آمد فكاتبه تقي ليسلم إليه ميافارقين لما كان في نفسه من سعد الدولة لما قبضه وصادره، فوصل أبو تغلب وتسلم ميافارقين في سنة ستين.
وفي سنة اثنتين وستين وثلاث مائة شرعت جميلة في عمل الخندق حول ميافارقين. وكان سيف الدولة شرع فيه أولا، عند وصول ملك الروم إلى ميافارقين ولم يتمه. فشرعت جميلة في إتمامه وغرمت عليه مالا عظيما. ويقال: إن ذلك المال أصله أن رجلا من التترابين كان ينقل التراب من ظاهر البلد من عند باب الهوة، من عند مسجد الدكة، فحفر يوما، فهوي به إلى هوة فوجد فيها مالا عظيما. فقصد جميلة - أخت الأمير سيف الدولة وزوجته - وأعلمهما بالمال، فسيرا من حمله، فكان شيئا كثيرا. فقالت: ما إلي هذا المال حاجة، فغرمته على الخندق.
وأما زوجة الأمير فأنفقت نصف المال الباقي على سور الربض، ولم يريا أن ينفردا بالمال، بل أنفقاه على مصالح البلد.
ولقي الناس من أخت الأمير وزوجته كل خير من المراعاة والإحسان، وحسن النظر في أمر الرعية ومصالح البلد.
[ذكر ولاية عضد الدولة ديار بكر وديار ربيعه]
" وفي سنة سبع وستين وثلاثمائة قصد أبو شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة أبي علي بن بويه الموصل ونازلها وأخذها من أبي طاهر وأبي علي ابني ناصر الدولة ".
وملك ديار ربيعه بأسرها، وصعد بطلب أبا تغلب إلى الجزيرة فقصده عضد الدولة فانهزم إلى بدليس فملك الجزيرة ونفذ في طلبه عسكر إلى بدليس فانهزم وصعد إلى خلاط ودخل إلى بلاد الروم وقصد قاليقلا وهي - أرزن الروم - وخرج منها إلى حصن زياد فلحقه العسكر الذي سيره عضد الدولة وعليه زياد أبو الوفاء فحاربه ودخل في ملطية.
وقيل: ظفر به وأسره في صفر سنة تسع وستين وثلاثمائة ونفذه إلى عضد الدولة فقتله في ثاني عشر صفر منها.
وعاد أبو الوفاء بخيله ورجله فنزل على ميافارقين، وحوصرت مدة وأخذت الحصون التي حولها. وأخذت أرزن في ثلاثة أيام. " ونصبت المجانيق على ميافارقين مدة ثلاثة أشهر.
وجد هزار مرد - نائب أبي تغلب - وكان صاحب أبي الهيجاء بن حمدان. وكان شيخا مجربا، شهما من الرجال في حفظ البلد ".
- وكانت جميلة بميافارقين تدبرها مع هزار مرد - " واشتد القتال، وجاء الشتاء، وكثرت الأمطار والثلوج ومات هزار مرد فنفذ أبو المعالي إلى ميافارقين حاجبا له يسمى يونس. وكان شجاعا بطلا خاصا عنده، فوصل إلى ميافارقين، وتوصل حتى دخل البلد ".
وكانت جميلة لما مات هزا مرد قد أحضرت أهل البلد، والقاضي أبا الحسين محمد بن علي بن المبارك، وكان يعرف هذا البيت بيت " ابن أبي " إدريس فقالت له ولأهل البلد: هذا قد مات، وأنتم أهل البلد، ويجب عليكم حفظهّ! فشرعوا في حفظ البلد، وقاتلوا ورتبوا ما احتاجوا إليه، إلى أن وصل يونس إلى ميافارقين. " وتساعد جميع أهل البلد ويونس على مصالح الناس. وكاتبه أبو الوفاء وخاطبه، فأبى إلا القتال والمنازلة " فبقي مدة.
وكان في البلد رجل متقدم من أهل البلد يسمى أحمد بن عبيد الله الفارقي وكان أهل البلد يرجعون إلى قوله، فنفذ إليه أبو الوفاء سرا وطيب قلبه، ووعده بالجميل ولأهل بيته ولمن يلوذ به. وكان هذا الرجل صهر القاضي المذكور، وكان بينهما مصاهرة الأهل، فاجتمع بالناس وتحدث معهم، واستوثق منهم، واستظهر بهم.
ثم إنه من الغد حضر عند القاضي ومعه جماعة فشكوا ما هم عليه من المضايقة والحصار، فقال القاضي: " وأين صبركم وجَلَدُكم؟! فبعد ما أكلتم الكلاب، ولا أكلتم أولادكم. ولامات منكم مائة في يوم واحد من الجوع!! وكم هي مدة الحصار؟! ".
فقال له أبو الحسن أحمد بن عبيد الله المذكور: يلقى الناس هذا جميعه حتى تكون أنت صاحب البلد؟! لا كرامة ولا عزازة!!.
ثم صاح بالناس وخرج ومعه أهل البلد، فثاروا على يونس ومن معه.
" ووقفت الصيحة وفتحوا الباب ودخل أبو " الفتح " المظفر بن " محمد " الحاجب إلى ميافارقين يوم الجمعة تاسع عشري صفر من سنة تسع وستين وثلاثمائة.
وكان الحصار في آخر سنة ثمان.