وقرأت في تاريخ منتجب الدين يحيى بن أبي طيّ النجّار الحلبي قال: أُسست المنارة في زمان سابق بن محمود بن صالح على يد القاضي أبي الحسن ابن الخشّاب وكان الّذي عمّرها رجل من سَرْمين. وبلغ بأساسها الماء وعقد حجارتها بالكلاليب الحديد والرصاص وأتمها في أيّام قسيم الدولة آق سُنْقُر. وطول هذه المنارة إلى الدرابزين بذراع اليد سبعة وتسعون ذراعاً وعدد مراقيها مائه وستون درجةً.
وأخبرني زيت الدين عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحيم بن العجميّ الحليّ أنّ والده حكى له أنّه لمّا جاءت الزلزلة بمدينة حلب وهدمت أكثر دورها وأهلكت جماعةً من أهلها وكانت ليلة الاثنين ثامن عشر شوال سنة خمس وستين وخمسمائة حركت المنارة فدفعت هلالاً كان على رأسها مقدار ستمائة قدم وتشقّقت.
وهذا القاضي أبو الحسن كان جده القاضي عيسى الناقل إلى حلب من حصن الأكراد في أيّام سيف الدولة عليّ بن حمدان ولم يزل لأسلافه مكان عند الملوك المشارة إليهم في الدول ولم يتعلّق أحد منهم بولاية لأحد من ملوك حلب وكانت نفوسهم تأبى ذلك لشرفها وعزّتها. وهو الذي أنشأ مسجد جرن الأصفر وحمل إليه الجرن من مكان بعيد وبنى التربة الملاصقة لدور أهل بيته وهي من البناء العجيب لأنّها من الدور الهرقليّة وذلك في سنة ثمان وخمسمائة. ووقف عليها حقل الحمّام البيلونة وهذا موقف يصرف فيما رُتّب لها ومهما بقي يُصرَف في الفقراء من بيت بني الخشّاب. وكانت الفرنج تكثر قصد حلب فكان إبن الخشّاب أبو الحسن هذا يواسي ضعفاء المحاصرين بها ويقوم بهم من ماله وقُتل قريباً من داره ليلاً سنة تسع عشرة وقام بالرئاسة بعده ولده أبو الحسن يحيى فسدّ مكانه وشيّد أركانه.
ومن أخبار لما توجه الأتابك عماد الدين زنكي لحصار قلعة شَهَرزُور ترك بحلب رئيسها صفي الدين عليّ البالسيّ وأمره أن يأخذ من أهلها ما لاً يصرفه في رجال تقاتل معه فاجتمعوا وقصدوا القاضي أبا الحسن وشكوا إليه ما نزل بهم واستغاثوا به فركب إلى الجامع في يوم الجمعة واحضر الرئيس وأنكر عليه فقال: أنا أعطي نصف ما ُطلب منهم وأَنت وسائر كبراء حلب النصف الباقي. فكتب صفيّ الدين إلى عماد الدين يُرفه بمنع القاضي له من استخلاص ما أمره به فأسرّها في نفسه ولم يُبْديها له فيما بعد. فلمّا قدم حلب ثّم أراد الخروج منها إلى الموصل أستصحب معه القاضي أبا الحسن بن الخشّاب ولما وصل إلى الموصل أنزله في دار أعدها له وأمر كبراء دولته بالتردّد إليه وزوّجه أحد سراريه فولدت له القاضي أبا الفضل المنعوت فخر الدين. فأقام بها إلى أن قُتل الأتابك على قلعة جعبر فعاد إلى حلب وبالغ الملك العادل في إكرامه لّما قدمها وترجّل للسلام عليه فترجل له الملك العادل نور الدين.
[ذكر ما آل إليه أمر المسجد الجامع في عصرنا]
ولمّا استولى التتر المخذولون على مدينة حلب يوم الأحد العاشر من صفر سنة ثمان وخمسين وستّمائة دخل إلى الجامع صاحب سيس وقتل به خلقاً كثيراً وأحرق الحائط القبليّ منه وأخذ الحريق غرباً وقبلةً إلى المدرسة الحلاّويّة واحترق سوق البزّازين. فعرّف عماد الدين القَزْونِيّ ما اعتمده السيسيّون من الإحراق للجامع وإعفائهم كنائس النصارى هُولاكُو فأمر برفع ذلك وإطفاء النار وقتل السيسييّن فقُتل منهم خلق ولم يُقدََر على إطفاء النار فأرسل الله تع مطراً عظيماٍ فأطفأه. ثمّ اعتنى نور الدين يوسف بن أبى بكر بن عبد الرحمان السلماسيّ الصوفيّ بتنظيف الجامع ودفن ما كان به من قتلى المسلين في جباب كانت للجامع للغلّة في شماليّه. ولمّا مات عزّ الدين أحمد أحد الكتبجية ومعناه الكاتب خرج عن ماله جميعه فقبضه أخوه وتصدّق ببعضه وعمّر حائط الّذي بُني وعقد الجملون على الحائط القبليّ والحائط الغربي من جهة الصحن وعمل له سقفاً متقناً.
ذكر ما مُدح به هذا المسجد
ولأبي بكر الصَنَوْبَريّ قصيدة مدح بها حلب وذكر فيها المسجد الجامع وهي:
حَلَبٌ بَدْرُ دُجَي أَنْ ... جُمُها الزُهْرُ قُراها
حَبَذا جامِعُها الجا ... مِعُ لِلنَفْسِ تُقاها
مَوْطَنٌ يُرْسي ذَوو البِ ... رِّ بِمَرْساهُ حُباها
شَهَواتُ الطَرْفِ فِيهِ ... فَوْقَ ما كانَ اشْتهاها
قِبْلَةٌ كَرَّمَها الل ... هُ بِنُورٍ وَحَباها