وبقي بيت المقدس في يده إلى خرج نصير الدولة الجيوشي، فاسترجع القدس وما كان قد استولى عليه من بلاد فلسطين والأردن، ونزل على دمشق فحاصرها وهو فيها فكتب إلى تاج الدولة صاحب حلب يستنجده، فلما سار إليه رحل نصير الدولة وقصد مصر، فلما قُتل تاج الولة أتسز سار إلى القدس فملكه فيما ملك. وذلك في سنة إحدى وسبعين.
ولم يزال " القدس " في أيدي نوابه، إلى أن أقطعه الأمير أرتق بن أكسب، وبقي في يده ولديه من بعد إيغازي وسكمان، إلى أن قصده الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه ابن الجيوش بدر المستنصري من مصر في عسكر. فنزل عليها في شعبان سنة تسعين وأربعمائة، وحاصرها، وضايقها، ونصب عليها المجانيق فهدم بها ثلمةً من السور، وأشرف من فيها على الغلبة. فبعث سكمان إلى الأفضل يطلب منه الأمان له ولأخيه إيغازي ولأصحابهما، فأجابهما. وتسلم البلد وولي فيه من قبله وذلك في سنة إحدى وتسعين، وخرج سكمان وأخوه إلى دمشق.
وبقي " القدس " في أيدي المصريين إلى أن قصدها الفرنج في سنة اثنتين وتسعين، وحاصروها أشد حصار حتى ملكوه، في اليوم الثاني من شعبان من السنة عنوة، بعد إعطائهم الأمان لمن فيه، فأحرقوا - لعنهم الله - المصاحف، وأخربوا المساجد؛ وكان ملكهم كندفري.
وأقام فيه إلى أن مات وولّي أخوه بغدوين بعده، ودام مالكه إلى أن أصابه جرح على العرش فمات منه في التاسع من ذي الحجة، سنة إحدى عشرة وخمسمائة.
وتولاه بعده القمص بغدوين صاحب الرها بعهد من بغدوين الأول، فسار إليه، وملكه وسكنه، وبقي في يده إلى أن مات بالفالج بي نابلس وبيت المقدس ليلة الاثنين حادي عشري شهر رمضان سنة خمس وعشرين وخمسمائة.
وملك بعده، بعهدٍ منه، زوجُ ابنته فُلك بن فُلك، وبقي في يده إلى أن وقع عن فرسه، وهو يطارد أرنباً في أرض عكّا، فغاصت في صدره، وعجل الله بروحه إلى النار، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
وولي بعده البلاد أكبر أولاده، وبقي حاكما على ما كان بيد أبيه من البلاد إلى أن مات في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
وولي بعده أخوه هفري وهلك في سنة ثمانين. وتولّى بعده ولدٌ له صغير، وفوض تدبير دولته لقومص بن بارزان صاحب أطرابلس وكان ابن عمه.
وبقي في يده إلى أن قصده الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فنصب عليه المناجيق، وسلّط على سوره النقوب، ممَّا يلي " وادي جهنم " إلى أن تسلمه يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ثمان وثمانين.
ومن الاتفاقات العجيبة والمصادفات الغريبة أن القاضي مُحي الدين بن الزكي مدح الملك الناصر صلاح الدين، لما فتح حلب بقصيدة، هنأه فيها، جاء منها: وفتحكم " حلباً " في النصف من صفرٍ مُبشر بفتوح " القدس " في رجبِ.
[ومن رسالة للقاضي الفاضل]
عبد الرحيم بن علي البيساني في فتح القدس ولما لم يبقى إلاّ القدس وقد أجتمع إليها منهم كل شريد طريد. واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد. وظنوا أنها من الله مانعتهم. وأن كنيستها إليه شافعتهم.
فلما نزلها الخادم رأي بلداً كبلاد. وجمعاً كيومِ التناد. وعزائم قد تألبت وتآلفت على الموت فنزلت بعرصته. وهان عليها موردُ السيف وأنْ تموت بغصته. فزاول البلد من جانبٍ فإذا أوديةٌ عميقة. ولجج وعرةٌ غريقة. وسور قد انعطف عطف السوار. وأبرجةٌ قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار. فعدل إلى جهةٍ أخرى كان للمطامع عليها مُعرج. وللخيل فيها مُتولج.
فنزل عليها، وأحاط بها، وقرب منها " وضرب خيمته " بحيث يناله السلاح بأطرافه. ويزاحمه السور بأكتافه. وقابلها ثم قاتلها. ونزل عليها ثم نازلها. وبرز إليها ثم بارزها. وحاجزها ثم ناجزها. فضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح. وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عتق الصفح. فراسلوه ببذل قطيعة إلى مُدة. وقصدوا نظرة من شدة وانتظار النجدة. فعرفهم الخادم في لحن القول. وأجابهم بلسان الطول.