للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والأخرى، خارج السور، تعرف بعين زعورا عند باب الروم. في وسطها قبة بناها ممهد الدولة بن مروان. وعلى البعد منها عين تسمى باكلا يجري منها نهر يدخل البلد، ويتصرف فيها في قساطل، وللجامع منها حصة تصب في بركة كبيرة.

وبها مدرستان: إحداهما، شرقي الجامع، تُعرف بالتاجية إنشاء تاج والآخر إلى الجامع.

وبها بيعتان: إحداهما من جهة باب لاروم تعرف ببيعة مريم، وبناؤها قديم محكم، يُضرب به المثل في الإتقان.

والأخرى في جوار بستان يعرف بالمنازي وكان بها بيعة عظيمة قبل فتح المسلمين لها. فلما فتحت المدينة عنوة، هرب من كان بها إلى البيعة، فتبعهم المسلمون، فلم يجدوا ممن هرب أحدا غير امرأة واقفة على باب سرداب، فسألوها عمن دخل البيعة، فأخبرتهم أنهم دخلوا هذا السرداب، وهو ينتهي بهم إلى بلاد الروم.

هدمت البيعة في أيام الملك الصالح محمود وبني ببعض أحجارها قيسارية للبز، وبقيت منها بقية تدل على عظمتها.

[ميافارقين]

قال الشرقي بن القطامي: " ميا " اسم الأودية، و " فارقين " اسم امرأة بنتها، فكأنهم قالوا: " أودية فارقين ".

ونقلت من بعض التواريخ أنه كان موضعها أجمة وشوكا. وكان الربض قرية عظيمة.

" وبها بيعة من عهد المسيح - عليه السلام - منها حائط باقٍ إلى الآن.

وكان رئيس هذه الديار رجلا يُسمى " ليوطا ". وكان مقدما مكرما، وكان حاكما على هذه الولاية. وتزوج بنت رئيس هذا الجبل الذي فيه الآن السناسنة. وكانت تُسمى مريم فأقامت معه وأولدت له ثلاثة أولاد ذكور، فحصل ولدان منهم في خدمة الملك ثيودوسيسوس الصغير اليوناني، وبقي الابن الصغير في هذه الديار عند أبيه. وكان اسمه مروثا، واشتغل اليوم بالعلوم والحكمة. فلما مات أبوه جلس مكانه وارتفع شأنه، وسكن البيعة التي بالقرية، وآتاه الله من العلوم والزهد ما لم يؤت غيره، وهو من جملة الثلاث مائة وثمانية عشر الذين كانوا بعد الحواريين. وكانت همته مصروفة إلى عمارة الأديرة والبيع.

وكان ملك الروم برومية الكبرى - وهي دار ملكه - وكان بينه وبين سابوربن أردشير، العاشر من ملوك الفرس عداوة عظيمة. فكانت الفرس تشن الغارات من أرزن على هذه الديار إلى آمد. وما وراءها، وتسبي أهلها وتقتل الرهبان.

وكان الملك ثيودوسيوس تزوج بامرأة من أهل الرها تسمى هيلانة - وخبرها مشهور عند النصرانية - فأولدها ولدا سماه: قسطنطين وهو: قسطنطين الأكبر. فبقي مدة ومات. وملكت هيلانة الملك بعده، وكبر قسطنطين وبلغ مبلغ الرجال، وملك موضع أبيه، وبقي برومية الكبرى مدة، ثم بنى القسطنطينية فلما أتمها سكنها، وتديرها الناس فصارت دار ملك الروم.

وكان مروثا مقيما بهذه الخطة التي هي الآن ميافارقين، وكان صاحب ماشية من غنم وبقر وغيرهما. وكانت همته مصروفة إلى عمارة الأديرة - كما ذكرنا - بحيث يقال: إنه قل أن يكون دير قديم إلا وهو من إنشائه.

فكانت الفرس في غارتها على هذه الديار تأخذ ماشيته فيما تأخذ منها فعمد إلى أرض ميافارقين، فقطع منها الشوك والقصب والطراش، وجعله سياجا ودوارا للغنم، تبيت به ليلا، خوفا من السراق.

فاتفق أنه كانت لملك الفرس ابنة فائقة الجمال، وكانت عنده بمنزلة عظيمة، فعرض لها مرض من الجنون، فجمع الأطباء والكهنة فعالجوها فلم تبرأ من ذلك المرض، فضاق صدره لذلك، فاستشار أهل مملكته ووزراءه في أمرها فأشاروا عليه بالإنفاذ إلى قسطنطين - ملك الروم - بأن يتقدم إلى مروثا بالحضور إليك ومعالجتها.

فنفذ إلى ملك الروم رسولا، ومعه هدايا وتحف عظيمة، فنفذ الملك إلى مروثا، وأمره بالمسير إليه. فسار مع الرسول إلى أن وصل إلى الملك سابور، ودخل على ابنته وعالجها أياما فبرئت مما كانت فيه. ففرح الملك فرحا عظيما، وقال لمروثا: تمن علي!! فقال: أريد الصلح والهدنة بينك وبين الملك قسطنطين، وتكون المودة بينكما دائمة، فأجابه إلى ذلك، وكتب بينهما عهدا لا ينقض مدة حياتهما.

فلما عزم على المسير، سأله الملك: هل لك حاجة؟ فقال: مالي حاجة. ولكني أسألك جمع عظام الرهبان والشهداء الذين قتلوهم أصحابك في بلادنا، وحملها معي إلى موضعي. فأمر له بذلك. وطيف بتلك الديار وجمع ما بها من عظام من قتله الفرس، وحملها معه إلى مقرة، ودفنها في موضعه.

<<  <   >  >>