وما زالت في يد الفرنج إلى أن قصدها مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبر، ونازلها في شهر رجب من سنة ثلاث وستين وستمائة، حتى ملكها عنوة في ثاني عشر الشهر، وأخرجها على يد جيوشه ملك الأمراء بدر الدين بيليك الخزندار، فإنه فيها بلاء عجبت السيوف من مضآئه، واعانته الأقدار على إمضائه.
[يافا]
وهي على ساحل البحر، كانت عامرة، عليها سور مُحكم البناء. ولها قلعة شاهقة في الهواء. وليس لها ذكر في الفتوح العمري.
والّذي اتصل بعلمي من أمرها أن فلسطين لما انتهت في الولايات إلى المستنصر العُبيدي صاحب مصر خرج عليه أتسز بن أوق التركي في سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقصد يافا، فأخرج منها نوابه، وعاد إلى دمشق، فخرج إليه عسكر من مصر مقدَّمهُ نصرُ الدَّولة وولّي فيها.
ولم تزل في أيدي العُبيديين إلى أن ملك تاجُ الدولة الشام فملك فلسطين وولّى في بلاده نوابه، وذلك في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.
ولم تزل في يده إلى أن قُتل في سنة ست وثمانين، فخرج الأفضل أمير الجيوش إلى الشام من مصر، فاستعاد يافا فيما استعاده من بلاد فلسطين، وولَّى فيها. وبقيت في أيدي نُوابهم إلى أن قصدها كندفري فتسلمها في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فشيدها، وعمرها، وسلّمها إلى طنكريد صاحب إنطاكية.
ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها عنوة الملك الناصر صلاح الدين في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، على يد أخيه الملك العادل، وخربها، وبقيت خرابا إلى أن تقررت الهدنة بين الملك الناصر وبين الفرنج، وشرَطوا عليه إبقاءَها في أيديهم.
فلم تزل في أيديهم إلى أن خرج الملك العادل سيف الدين ابن أبي بكر أيوب من دمشق لما بلغه إغارة الفرنج على بلاد الساحل وذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فأغار على مرج عكا، وقصد يافا، ففتحها عنوة في شوال من السنة.
ولم تزل في يده إلى أن خرج الفرنج، وملكوا بيروت فخرج إليهم الملك العزيز من مصر، ووقعت الهدنة بينه وبينهم، وأعيدت يافا إليهم في سنة أربع وتسعين. فلم تزل في أيديهم إلى أن أطلق ريد افرانس من الأسر في سنة ثمان وأربعين وستمائة، وصار إلى الساحل فعمرها، وبنى قلعتها، وجدد أبنيتها.
وبقيت في أيديهم إلى أن قصدها السلطان الملك الظاهر، ونازلها في العشرين من جمادى الآخرة من سنة ست وستين وستمائة، فحضر عنده رسول من صاحبها بالإقامة على ما جرت به العادة، فقبض إليه، وسار إلى " يافا " ليلاً، وعسكره لابسٌ، فصبحهم بكرة فهرب من كان بالمدينة إلى القلعة، وهي على رابية عالية حصينة، فلم تغن عنهم شيئاً، وفتحها بعد يومين من نزوله عليها بالأمان، وخربها، وهي الآن خراب يباب
[عسقلان]
طولها خمس وستون درجة. وعرضها إحدى وثلاثون درجة وخمسون دقيقة. طالعها الأسد صاحب ساعة بنائها المشتري.
قال البلاذري: " وكتب عُمر إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين، ففتح عسقلان صلحاً بعد كد. ويقال إن عمرو بن العاص كان قد فتحها، ثم نقض أهلها وأمدهم الرُّوم، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط، ووكّل بها الحفظة ".
وقال أيضاً عمن حدثه من أهل عسقلان: إن الروم أخربتها وأجلت أهلها عنها في أيام ابن الزّبير فلمّا ولي عبد الملك بن مروان بناها وحصنها.
ولم تزل في يد من يلي فلسطين - إلى ما حكيناه - منذ فتحت إلى أن صارت في أيدي المصريين، فلما كانت أيام الآمر بأحكام الله كان بها من قبله والياً بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج، وهادنه وأهدى إليه وامتنع به من حكم المصريّين عليه.
فوصلت إلى الآمر الأخبار بذلك، فبعث عسكراً وقدّم عليه قائداً، وأوعز إليه أن يمر بعسقلان، ويظهر أنه يريد الغزاة، وكتب معه كتابا إلى " شمس الخلافة " يأمره فيه بالنهوض معه، وأوصى القائد بالقبض عليه إذا خرج إليه. فلما قارب عسقلان استدعاه فامتنع من الحضور وجاهر العصيان، وأخرج منْ كان معه من الجند المرتبين معه خوفاً منهم.
فلما بلغ الآمر ذلك خاف على عسقلان أن يأخذها الفرنج فأرسل إلى شمس الخلافة، وطيب قلبه، وأقطعه بلاداً بمصر حتى انقاد له، ثم إنه خاف ممن معه فيها، فأحضر جماعة من الأرمن، واتخذهم جنداً، فأنكروا عليه فعله، ووثبوا عليه فقتلوه، ونهبوا داره، وكتبوا إلى الآمر بذلك فبعث عليهم والياً، وذلك في أخر سنة أربع وخمسمائة.